كان يا مكان، في أزمنة غابرةٍ لا يعرفها إلا من عاش بقدر النجوم المنيرة، كانت هناك ساحرة عجوز تُدعى نيدا، تعيش في عالمٍ يكتنفه الغموض. اعتادت نيدا أن تجوب الأفق على متن مكنستها السحرية، ممسكةً في يدها مكنسةً أخرى، وكأنها تدير بيدها مصير الأضواء.
كانت تطير في السماء، وكأنها سيدة الفضاء، تنزع الغيوم الصغيرة التي كانت النجوم تتوارى خلفها حينما تشعر بالإرهاق من تألقها المتواصل.
اشتكت النجوم الصغيرة من أعمال نيدا، وغضبت من تصرفاتها، فقالت: “أنتِ تمنعيننا من التستر بستائرنا السماوية أيتها الشريرة اللعينة. ارحلي عنّا دون عودة!”
ولكن، في خضم ذلك، لم تفارق الساحرة نيدا ضحكها، بينما كانت تواصل عملها بالمكنسة، قائلةً بلهجةٍ مستفزة: “يا لكم من نجوم صغيرة سخيفة، لقد كانت السماء في فوضى عارمة قبل وجودي، إذ يتعين عليّ تنظيفها كلّ ليلة. ولو لم أفعل، لكانت السماء الآن ممتلئة بشباك العنكبوت.”
وفي إحدى الليالي، بينما كانت النجوم تتوشح بحجبها، اقتربت الساحرة العجوز نيدا بمكنستها السحرية ونزعت تلك الحجب بحركةٍ عنيفة، فتأجج غضب النجوم الصغيرة حتى انساقت خلف مشاعرها، وأمطرتها بشهب حادة كالسيوف صوب وجهها. فتألقت السماوات وتلألأت بألوانٍ متوهجة، حتى لم تعد نيدا ترى من طريقها شيئاً، فاصطدمت بالقمر الذي كان يتطلع من خلف سحابة ليكتشف مصدر هذا الاضطراب.
“احذري أين تذهبين، أيتها الساحرة الشمطاء!” صرخ القمر بصوتٍ عالٍ.
فأسقطت نيدا مكنستها، ومدت يديها لتقبض على القمر، وأمسكت به من أنفه بقوةٍ.
“اتركي أنفي وشأنه أيتها اللعينة!” صرخ القمر في غضب، لكن الساحرة العجوز نيدا لم تُفلت قبضتها. تمسكت به بكل عنفٍ، وسحبته إلى قمة جبلٍ عالٍ.
قالت نيدا، وهي تفتح خزانةً مظلمةً كأعماق الليل وتلقي بالقمر فيها: “سأجعل تلك النجوم المشاغبة تبكي هذه الليلة جزاء ما فعلن بي.” ثم أضافت بلهجةٍ مفعمة بالتحدي: “لن يكون لديهم ضوء القمر لوقتٍ طويل، وإذا تمكنت من أخذ الشمس، فسأكون قادرةً على الإمساك بزمام السماء كما أريد، وسأجعل تلك النجوم حتما تندم على سوء أدبها معي الليلة.”
وفي صباح اليوم التالي، بينما كانت الشمس تتلألأ في كبد السماء دون أن تستشعر الخطر، ارتدت نيدا نظّاراتها الداكنة، ووضعت قبعتها العالية، وارتدت عباءتها السوداء، وكأنها تحضر لاحتفالية ليلية. ثم قفزت على مكنستها، وسرعان ما اندفعت نحو الشمس.
أمّا النجوم، فقد كانت نائمة بعمقٍ وسكون، فلم تعطيهن أيّ نداءٍ أو تحذير. وظنت الشمس أن السحابة السوداء التي تقترب منها ما هي إلا واحدة من سحب الليل العادية.
قالت الشمس متثائبة: “آه، الآن يمكنني التمتع بقيلولة قصيرة. هذه السحابة السوداء ستكون ملاذاً مناسباً للاختباء قليلاً، فقد شعرت بالتعب من التألق المتواصل طوال النهار.” ثم شرعت الشمس في تثاؤبٍ عميق، استعداداً لخلودٍ قصير إلى القيلولة.
حينئذٍ حدث أمرٌ غير مألوف لم تكن الشمس على استعداد له، فقبل أن ينقضي تثاؤبها، شعرت بشيء يجرها، ثم غُطّت بغطاءٍ أسود وسُحبت بسرعةٍ هائلة، وهي لا تعرف وجهتها.
قالت الساحرة العجوز نيدا، وهي تسحب الشمس، بينما كانت ترمش وتومض، متسائلة عن سر ما يجري لها: “حسناً، يبدو أنني أستطيع الآن إدارة الأمور كما أشاء.”
أدخلت نيدا الشمس إلى الخزانة المظلمة حيث كان القمر في انتظارها، وغلّقت الأبواب خلفها بإحكام.
استفاقت النجوم على وقع الظلام الكثيف الذي عمّ الأفق، بعدما سرقت الساحرة العجوز نيدا الشمس. فتألقت النجوم الصغيرة طوال الليل والنهار، لأنّ الشمس لم تشرق من جديد أبدا، وراحت النجوم تتساءل عن مدى دوام الليل الطويل.
في الليلة التالية، بدأت النجوم في محاولة التألق كما تفعل الشمس عادة، ولكن سرعان ما بدأ الإرهاق يتسلل إلى النجم تلو الآخر، حتى عجزت جميعًا عن إبقاء أعينها المتألقة مفتوحة، وراحت تنعس تدريجياً.
قالت إحدى النجوم، وهي تحاول جاهدةً البقاء مستيقظة: “أتساءل ما الذي يحدث لنا؟ لم أشهد ليلةً بهذا الطول من قبل.”
قالت نجمة متأملة: “وأين يمكن أن يكون القمر؟ لعلنا إذا رأيناه، نكتشف سبب كسوف الشمس الطويل.”
في تلك الأثناء، كانت الساحرة العجوز نيدا تطير حولهم، مختفية تحت عباءتها السوداء، تضحك وتضحك وهي تستمع إلى تساؤلات النجوم الصغيرة.
قالت نيدا وهي تخلع عباءتها كاشفة عن نفسها للنجوم المتفاجئة: “أستطيع أن أخبركم بمكان الشمس والقمر. لقد قمت بحبسهما في خزانة بمنزلي.” ثم طارت مبتعدة على مكنستها، تاركةً خلفها النجوم في حالة من الذهول والحيرة.
قالت نجمة أخرى، وهي تشعر بالقلق: “يجب علينا التصرف بسرعة. إذا تركنا الساحرة العجوز تحتفظ بالشمس والقمر، فمن يدري ما الذي سيؤول إليه حالنا.”
ردّ نجم آخر بلهجةٍ يائسة: “لكن ماذا يمكننا أن نفعل؟ نحن هنا في السماء، ومنزل نيدا يقع على قمة جبل. بالإضافة إلى ذلك، فهي ستراقبهم عن كثب، لا بد أن تكون متأكدا من ذلك. ما السبيل إلى إنقاذهما يا ترى، وكيف سنتمكن من مواجهة مصيرنا هذا؟”
قالت النجمة الكبرى، وقد تألق عزمها في كلماتها: “يجب على إحدانا أن تتوجه إلى حيث تحتفظ الساحرة العجوز بالشمس والقمر، وتقوم بتحريرهما. والآن، مَن مِن بيننا ستكون على عاتقها هذه المهمة؟ هذا هو الأمر الذي يجب تحديده أولاً.”
خيمت لحظة صمتٍ ثقيلة على النجوم، ثم تجرأت نجمة صغيرة جداً، وقد تملكتها الشجاعة، وقالت بتردد: “أنا على استعداد للذهاب، أشعر بأنني قد لا أكون ذات نفع كبير لصغر حجمي، ولكنني سأفعل قدر المستطاع.”
أجابت النجمة الكبرى، وقد تلألأ وجهها بالثقة: “أنت تماماً من يجب أن يتوجه إلى هنالك، وذلك لصغر حجمك. سأشرح لك الآن كيفية تنفيذ هذه المهمة الخطيرة.”
ثم أتبعت: “لن تفارقنا الساحرة العجوز نيدا هذه الليلة، وهذا أمر لا شك فيه، فهي الآن في نشوة فرح غامر لأنها استحوذت على الشمس والقمر، وتود أن تنعم برؤية حيرتنا المربكة. فإذا أرخى الليل سدوله، يتعين علينا أن نثير ضجيجًا عظيمًا، ونذرف الدموع بحرقة، مظهرين اضطرابنا، وكأننا لا نميز بين الليل والنهار، ونتوسل إليها بائسِين. فإذا اقتربت منّا ينبغي لنا أن نزيد في صراخنا وعويلنا لنحول انتباهها عن النجمة الصغيرة. وعندئذ، يجب عليها أن تقفز على المكنسة وتختبئ فيها، وتتبع الساحرة العجوز نيدا حيثما تقودها.”
قالت جميع النجوم بصوتٍ متداخل وقلق: “آه! آه! آه!” متأثّرات بهيبة الساحرة العجوز نيدا في قلوبهن ومدى صعوبة هذه المهمة. بينما اكتفت النجمة الصغيرة بالاستماع والتركيز، فلم تُبْدِ أيّ صراخ أو بُكاء، بل رمشت أعينها وكلها آذان صاغية إلى تعليمات النجمة الكبرى، التي واصلت الشرح قائلة: “كما ذكرتُ، يتعيّن على النجمة الصغيرة أن تقفز على مكنسة الساحرة العجوز نيدا، وتلتزم بصمتٍ مطلق حتى تصل الساحرة نيدا إلى قمة الجبل حيث منزلها المهيب.”
ثم أضافت: “يمكنك فقط إلقاء نظرة خاطفة لتعلمي مسلك الساحرة، ثم عليك أن تظلي ساكنة وهادئة حتى تغطّ نيدا في نومها، فهي عادةً ما تستغرق في النوم خلال ساعات النهار، رغما أنّنا لا نعرف الليل من النهار الآن. على كلّ حال، ستتعب عاجلًا أم آجلًا، وعندما يسود الهدوء وتستشعرين يقينًا أنّ الساحرة العجوز قد غطّت في النوم، يجب عليك التحرك بخفةٍ وسكون حتى تجدي الخزانة التي أُسِرَ فيها الشمس والقمر وتفتحي بابها بأسرع ما يمكنك.”
سألت إحدى النجمات بقلق: “لكن، ما الجدوى من ذلك؟ حتى وإن أطلقنا سراح الشمس والقمر، كيف سنعيدهما إلى مداراهما في السماء؟ فلن تعيدهما الساحرة العجوز إلى مكانيهما بالطبع.”
فأجابتها النجمة الكبرى: “انتظري، أختي العزيزة، سأوضح لَكُنَّ كيف يمكن تصحيح الأمور.” ثم استدارت إلى النجمة الصغيرة وقالت: “بعد أن تنجحي في إطلاق سراح الشمس والقمر، يجب عليكِ أن تسرعي إلى حيث تخبئ الساحرة العجوز مكنستها السحرية وتركبيها. قومي بتحريكها ثلاث مرات في اتجاهٍ واحد، ثم ثلاث مرات في الاتجاه المعاكس. بهذه الطريقة، ستتمكنين من إرجاع الشمس والقمر إلى مكانهما في السماء عبر استعمال المكنسة الطائرة.”
قامت النجمة بتنفيذ الخطة بحذافيرها، فأنقذت الشمس والقمر، ثم قالت وهي تلعب بالمكنسة السحرية بعد أن هزتها ثلاث مرات نحو اتجاه وثلاث نحو اتجاه آخر: “إلى السماء! ارفعينا إلى موطننا، أيتها المكنسة السحرية.”
فرفعتهم المكنسة بُرهة من الزمن، وسرعان ما عادت الشمس لتضيء في السماء كما لو لم تعاني من شبح الغياب، وأغلقت النجوم عيونها من جديد لتستسلم لسباتٍ عميق، فقد أخذت منها الأحداث كلّ مأخذ.
وفي تلك الليلة البديعة، حلّت النجمة الصغيرة في مكانها بين النجوم بهدوءٍ وسكينة، لكن زميلاتها لم يلبثن أن التففن حولها، لمعرفة أسرار مغامرتها السحرية، وكم من الأسرار رأت في دار الساحرة الشريرة.
قالت النجمة الصغيرة، وقد بدت على شفتيها ابتسامة الرضا: “آه، كلّ ما فعلته هو اتباع ما قالته لي النجمة الكبرى، وهكذا تمكّنت من إعادة الشمس والقمر إلى مكانهما.”
وفي الأثناء سمعتهما النجمة الكبرى، وقد علت وجهها معالم الإعجاب: “لقد أثبتت شجاعتك، أيتها النجمة النبيلة. وكجزء من مكافأتك، سأحول مكنسة الساحرة العجوز إلى مجموعة من النجوم، التي تشكل صليبًا في السماء. وفي هذا الصليب ستظل تتلألئين إلى الأبد كسيدة لهذه النجوم، حيث ستتمتّعين ببريق يفوق أيًّا منّا، أيتها النجمة الشجاعة.”
وبالطبع، لم تستطع الساحرة العجوز، بعد أن فقدت مكنستها، أن تعكر صفو السماء من جديد، لذا عادت النجوم لتتلألأ وتسطع بفرحٍ وسرور، دائمة الامتنان للنجمة الصغيرة التي أنقذتهن من تلك المحنة العظيمة.