في أعماق غابةٍ سحرية، تناثرت حكايات عن عالمٍ خفي، حيث تنبض الحياة في كلّ ركن، وتتحدث الحيوانات بلسانٍ فصيح كالبشر. كانت تلك الروايات تتردد على مسامع هُلدا وناثان، لكنهما اعتبراها نسجاً من خيال، وضرباً من المحال، حتى حل يومٌ وجدا فيه نفسيهما يخوضان غمار تلك الغابة الأسطورية.
بينما كانا يتهاديان بين أشجارٍ عملاقة تعانق السماء بأغصانها المتشابكة، لمح ناثان سنجاباً رشيقاً يقفز بخفة بين الأغصان. وكأنما سحره منظر ذلك المخلوق الصغير، فانطلق على إثره كسهمٍ من قوس، وهُلدا تلحق به بخطواتٍ متعثرة، تشق طريقها بين الأعشاب الطويلة والجذور المتعرجة.
في مناسبات عديدة كاد ناثان أن يظفر بالسنجاب، لكنه في كلّ مرة كان ينساب من بين أصابعه بكل رشاقة. وفجأة، وجد الاثنان نفسيهما في قلب جزءٍ مجهول من الغابة، حيث الأشجار أكثر كثافة، والظلال أكثر عمقاً، والصمت أكثر هيبة.
همست هُلدا بصوتٍ يرتجف كورقة في مهب الريح: “استمع لي يا ناثان، علينا أن نعود أدراجنا. فها هو الظلام يزحف ببطء، يلتهم ضوء النهار، وقد نضيع في متاهة هذه الغابة الخضراء الغامضة إن لم نسرع بالخروج.” لكنّ محاولاتهما للعودة باءت بالفشل، وبدلاً من العثور على المسار المؤدي إلى قريتهم، وجدا نفسيهما يغوصان أكثر في أعماق الغابة.
وما إن ألقى الليل برداءه الأسود على الغابة، حتى انهمرت دموع هُلدا بغزارة، بعد أن اعتراها القلق المتزايد بسبب ضوء القمر الخافت.
حاول ناثان تهدئة روعها، فقال بصوتٍ حاول أن يملأه بالثقة: “لا تخافي يا عزيزتي. سيضيء القمر السماء بنوره الفضي، وسيرسم لنا طريق العودة. أنا واثق أننا سنجد سبيلنا قريباً.”
تنهدت هُلدا بحزن، وهمست: “أخشى أننا قد ضللنا السبيل يا ناثان. هذه الغابة تبدو وكأنها تبتلعنا في جوفها العميق كلما تقدمنا أكثر.” وبينما كان ناثان يرشدها للجلوس تحت ظل شجرة عتيقة، ضخمة الجذع، مرتمية الأطراف، إذ لمع فجأة بريقا خافة جذب انتباههما.
رفعا أعينهما ببطء، ليكتشفا مصدر الضوء، لقد كان صادرا عبر نافذة صغيرة متوهجة في جذع الشجرة العملاقة. وإذ بصوتٍ رقيق، حنون كنسمة الصباح، يتسلل إلى مسامعهما: “هل أنتما تائهان، أيها الطفلان الصغيران؟”
ظهرت بومة حكيمة من النافذة، عيناها تلمعان بالفضول والحكمة. سألها ناثان بلهفة طفل ضائع: “أيتها البومة الكريمة، هل تستطيعين إرشادنا إلى طريق الخروج من هذه الغابة المسحورة؟”
أجابت البومة بنبرة حانية: “آه يا صغيريّ، المسافة أبعد من أن تقطعاها في هذا الليل الحالك. تعالا إلى عشي الدافئ، وسأقدم لكما عشاءً شهياً يعيد إليكما قوتكما.”
صاح ناثان بحماسٍ، وعيناه تلمعان بالإثارة: “يا إلهي! الآن أدركت أين نحن! إننا في قلب غابة الحيوانات الناطقة، تلك التي طالما سمعنا عنها في الحكايات!”
انفتح باب خشبي صغير في جذع الشجرة بهدوء، كأنه يدعوهما للدخول. ولج الطفلان إلى مطبخٍ دافئ، أنيق ومرتب، تملؤه رائحة الطعام الشهي. كانت السيدة بومة، بريشها الناعم ومنقارها الحاد، ترتدي مئزراً أبيض كبيراً وقبعة طهي أنيقة، تُعِدُّ العشاء بعناية. رحبت بهما بدفء قائلة: “تفضلا بالجلوس إلى المائدة، يا صغيريّ.” كانت الأطباق الخزفية الصغيرة والملاعق الفضية معدة بعناية، وسرعان ما أتمّت السيدة بومة طهو العصيدة الساخنة ذي اللون الذهبي الممزوجة بالحليب الطازج.
وبفضل لطفها وحنانها، شعر هُلدا وناثان بالراحة والطمأنينة، كأنهما في بيتهما وسط هذه الغابة الغريبة. وبعد أن أنهيا وجبتهما الشهية، التي أعادت إليهما الدفء والقوة، سألتهما السيدة بومة بابتسامة دافئة ملأت عينيها الحكيمتين: “والآن، يا صغيريّ العزيزين، هل ترغبان في رؤية أطفالي اللطفاء؟ إنهم ينتظرون بشوق لرؤية ضيوفنا الجدد!”
“بالطبع نود ذلك بكل سرور!” أجابت هُلدا بحماسٍ طفولي، وعيناها تلمعان بالفضول. قادتهما السيدة بومة عبر ممرٍ ضيق مزين بصور عائلية لعائلة البوم، إلى غرفة النوم الدافئة. هناك، في سريرٍ وثير مصنوع من أنعم ريش الغابة، كان ثلاثة بوماتٍ صغيرة يغطون في نومٍ عميق، أجنحتهم الصغيرة ملفوفة حولهم كأغطية حريرية.
“إنهم ألطف طيور الغابة قاطبة.” أعلنت الأم الفخورة، وصدرها ينتفخ بالزهو.
ابتسمت هُلدا بعذوبة وقالت: “لا أشك في ذلك للحظة، خاصةً عندما تكون عيونهم مفتوحة. أتخيل كم سيكونون لطيفين!”
في صباح اليوم الموالي، بعد أن قدمت لهم السيدة بومة فطوراً شهياً من العسل البري وفطائر التوت، أعربت هُلدا عن رغبتها في للرحيل. وشكرا السيدة بومة وصغارها بامتنانٍ عميق على كرم ضيافتهم الذي غمرهما بالدفء والأمان.
“انظرا!” نبهتهما السيدة بومة فجأة. “ها هو السيد بروين قادم. سيرشدكما إلى خارج الغابة.” لاحظت نظرات الفزع على وجهي الطفلين فطمأنتهما قائلة: “لا تقلقا، ففي غابة الحيوانات الناطقة هذه، لا يصيب أحداً أي أذى. صباح الخير يا سيد بروين،” حيت الدب الضخم. “هذان الطفلان ضلا طريقهما. هل يمكنك إرشادهما إلى المسار الصحيح؟”
“بكل سرور،” أجاب بروين بصوته الجهوري العميق. “يمكنهما مرافقتي. فأنا ذاهب في نزهة طويلة على أيّ حال، وسأكون ممتناً لصحبتهما اللطيفة.”
سار هُلدا وناثان جنباً إلى جنب مع السيد الدب بروين، الذي تبين أنه ودود ومسلٍ للغاية، مما بدّد مخاوفهما سريعاً. كانت خطواته الثقيلة تهز الأرض قليلاً تحت أقدامهما، لكن ابتسامته الدافئة ملأت قلبيهما بالطمأنينة.
“صباح الخير يا سيد بروين،” نادت أنثى طائر النّقار الأزرق من شرفتها المزينة بالزهور البرية. “إلى أين أنتم ذاهبون منذ الصباح الباكر؟”
شرح بروين وجهتهم، فدعتهم للدخول بحماس قائلة بلطف: “ربما يود الطفلان مقابلة صغاري اللطفاء.”
“سنكون في غاية السعادة لرؤيتهم،” ردّت هُلدا بابتسامة عريضة، وناثان يومئ برأسه موافقاً.
كان منزل طائر أنثى النّقار الأزرق يقع في قلب شجرة ضخمة، تزينه شرفات من جميع الجهات كأنها قصر صغير. بينما بقي بروين في الأسفل، نظراً لحجمه الكبير، تبع هُلدا وناثان السيدة طائر النقار الأزرق إلى الطابق العلوي، حيث كانت المفاجأة بانتظارهم.
“أليسوا في غاية الروعة؟” هتفت الأم بكل فخر، وهي تكشف عن ثلاثة طيور نقار زرقاء صغيرة، تتكور في مهدٍ أنيق. “إنهم أجمل طيور الغابة بأكملها، بلا منازع، أليس كذلك؟”
وافق هُلدا وناثان بحماس، وقد سُحرا بجمال الكتاكيت الصغيرة وزغبها الناعم. بعد أَنْ ودَّعا السيدة طائر النقار الأزرق، عادا لينضمّا إلى الدب الكبير بروين الذي كان ينتظرهم بصبر.
“انظرا إلى هناك،” أشار بروين بمخلبه الضخم نحو صخرة كبيرة بدت غريبة الشكل، تشبه منزلاً حجرياً. “ذلك هو بيتي. ستغضب زوجتي إن لم أعرفكما عليها. هيّا بنا لنذهب للقائها. “
“سنكون في غاية السرور لتلبية دعوتكم، “أجابت هُلدا بعذوبة، وعيناها تتألقان كنجمتين في سماء ليلية صافية. وما هي إلّا لحظات حتّى وجدا نفسيهما على عتبة مسكن بروين الصخري، الذي بدا وكأنه قطعة من الجبل نفسه قد تحولت إلى منزل دافئ.
استقبلتهم السيدة بروين، وقد تزينت بقبّعة أنيقة ومئزر مزركش، بابتسامة أشرقت كشمس الصباح، تشع منها أمومة حانية وترحيب صادق. “تفضلا بالدخول إلى كوخنا المتواضع،” دعتهما بصوت رقيق كهمس النسيم بين أوراق الشجر. “سأعد لكما وليمة شهية، وأعرفكما على فلذات أكبادي. أنا على يقين أن قلبيكما سيخفقان حباً لهم ما إن تقع عليهم أعينكما.”
وبخفة ورشاقة انطلق الدبّان بروين وزوجته لإحضار صغارهما. وفي غمضة عين، عادا وكل منهما يحمل بين ذراعيه دباً صغيراً، كأنه قطعة من الغيوم الرمادية الناعمة المنفوشة. وُضع الديسمان في كرسيين عاليين، وسرعان ما بدآ يعبثان بالحليب بملاعقهما الفضية، وقطرات الحليب البيضاء تتبعثر في الهواء هنا وهنالك، تماماً مثلما يفعل الأطفال المشاغبون الذين شاهدهما هُلدا وناثان في عالمهم البشري تماما.
بعد أن انتهوا من وليمتهم الشهية، حان وقت الوداع. ودعا السيدة بروين وديسميها الصغيرين، وكانا حريصان على إغداقهم بعبارات الإطراء على مدى سحر جمال الصغار “الذي لا يُقاوم،” كأنهم يصفون جمال زهرتين بريتين نادرتين.
واصل الطفلان والدب رحلتهم عبر الغابة السحرية، أقدامهم تطأ الأرض المغطاة بأوراق الخريف الذهبية والحمراء، قاطعين مسافة بدت وكأنها تمتد إلى ما لا نهاية. الصمت يلف المكان، يقطعه فقط صوت الريح الهامسة بين الأغصان، حتّى صادفوا فجأة سنجاباً رشيقاً وأرنباً وديعاً.
“هلا تفضلتما بمشاركتنا شاياً عطراً؟” دعاهما الأرنب بلطف. “ولا بد أن تلقيا نظرة على صغاري الأعزاء.”
وبعد ذلك، أضاف السنجاب بحماس طفل صغير، “يشرفني أن أريكم أطفالي أيضاً، لو أردتم.”
قَبِل الصغيران الدعوة بسرور، وزارا الأرنب أولاً. كان منزله الأبيض الناصع أشبه بلؤلؤة تتلألأ وسط خضرة الغابة، تزينه ستائر بلون الزمرد، وتحيط به حديقة خضروات مزدهرة كأنها سجادة من الألوان الزاهية. أدخلتهم السيدة أرنب إلى غرفة جلوس دافئة، حيث عبق الهواء برائحة الأعشاب العطرية.
بينما كانا يرتشفان الشاي الساخن من أكواب خزفية رقيقة، مزينة برسومات لأوراق الشجر، دخلت السيدة أرنب تحمل سلتين مغطاتين بعناية. وضعتهما على الأرض برفق، كأنهما تحملان كنوزاً ثمينة. بحركة بطيئة مليئة بالحب والفخر، كشفت السيدة أرنب عن السلتين، لتظهر أرانبها الصغيرة النائمة، كقطع من القطن الناعم.
“أقسم لكم بكل فخر،” أعلنت بصوت مفعم بالنشاط، “إنهم أكثر المخلوقات جمالا ولطافة في الغابة بأسرها.” وافقت هُلدا بحرارة، إذ لم تقدر حتى على ابعاد عينيها عن هذا المشهد الطبيعي الجميل أمامها.
انتقلا إثر ذلك إلى الجانب الآخر من الطريق، حيث يقع منزل السيدة سنجاب. كان صغارها يمرحون في الفناء، يقفزون بخفة بين الأغصان كأنهم راقصو باليه محترفون. ابتسمت السيدة سنجاب بفخر وقالت: “لقد منحتهم حرية اللعب كي تشهدوا رشاقتهم الفطرية. أليسوا أروع وأجمل صغار في ربوع هذه الغابة الساحرة؟”
“لا يسعني إلا أن أتفق معك،” ردت هُلدا بإعجاب صادق. “إنهم في غاية البراعة والحيوية، كأنّهم شرارات حية مفعمة بالطاقة والمرح.”
وأخيراً، وإثر اقترابهما من حافة الغابة السحرية، حيث يبدأ المسار المؤدي إلى العالم العادي، توقف بروين وقال بنبرة حزينة: “للأسف، لا أستطيع مرافقتكم أبعد من هذا. فبمجرد عبور هذا الحد، يفقد كل حيوان ناطق قدرته على الكلام، كأن سحراً قد فُك عنه.”
“نحن في غاية الامتنان لك يا صديقنا العزيز،” عبّر ناثان عن شكره العميق. “لقد منحتنا تجربة ستبقى محفورة في ذاكرتنا وقلوبنا إلى الأبد.”
“أتمنى أن تعودا لزيارتنا،” مدّ بروين يده وقد دعاهم بكل حرارة. “أبواب غابتنا وقلوبنا مفتوحة دائماً للزوار الطيبين أمثالكما.” وبهذه الكلمات الوداعية المؤثرة، رجع بروين إلى أعماق الغابة، متلاشياً بين الأشجار كطيف من حلم جميل.
“أظن أنني لن أرغب في تناول العصيدة والحليب لفترة طويلة قادمة،” تنهدت هُلدا بمزيج من المرح والحنين. “يبدو أنه الطعام الرسمي لسكان هذه الغابة العجيبة. وهل لاحظت كيف كانت كل أُمٍّ مفتونة بجمال صغارها؟ كان الأمر محرجاً قليلاً عندما يسألننا عن رأينا في جمال أطفالهن. ”
“لكنك وافقت كل أم على رأيها،” لاحظ ناثان بذكاء، “حتّى البومة قد أطريت على أطفالها، رغما عن أنّ فراخها كانت، بصراحة، أقل جاذبية مما رأينا من بقية الصغار. “
“وهل كنت لتخبر أماً أن طفلها ليس جميلاً؟” سألت هُلدا بحكمة تفوق سنها.
“بالطبع لا،” وافقها ناثان على رأيها بعد لحظة من التأمل. “هذا ما لا يمكن لأحد أن يفعله. “
“حسناً، يبدو أنّ الأمر لا يختلف كثيراً بين البشر والحيوانات والطيور،” خلصت هُلدا إلى نتيجتها العميقة.
منذ ذلك اليوم، ورغما عن محاولاتهما العديدة والمتكررة، لم يتمكن هُلدا وناثان من العثور مجدداً على ذلك المسار السحري المؤدي إلى غابة الحيوانات الناطقة. ومع ذلك، ظلّ قلباهما مفعمين بالأمل، عالمين في أعماقهما أنّ تلك الغابة الساحرة موجودة في مكان ما، ينتظر اكتشافه. وفي كلّ ليلة، قبل أن يغمضا أعينهما للنوم، يحلمان بذلك اليوم السعيد الذي سيعودان فيه إلى عالم العجائب ذاك، حيث تنطق الحيوانات وتتحدث الأشجار، وحيث السحر والواقع يمتزجان في نسيج واحد من الجمال والدهشة.