ساحر أوز العجيب: إنقاذ الحطّاب الصفيح (24/5)

أشرقت الشمس بنورها الوضّاح، وتسللت أشعتها من بين الأشجار لتوقظ دوروثي، ويبدو أن توتو قد استيقظ مبكرًا، وخرج كعادته ليشاكس خلق الله، لا سيما الطيور والسناجب. نظرت الفتاة حولها فوجدت رفيقها كيس القش واقفًا على حاله، ينتظرها في الزاوية.

فقالت له الفتاة: “يجب أن نذهب ونبحث عن الماء.”  فسألها: “لماذا تريدين الماء؟”


جاوبته: “لأغسل وجهي من غبار الطريق، وألين به حنجرتي حتى لا تجرح كسرات الخبز اليابس حلقي.


لما سمع خيال الفزّاعة ما تقوله الفتاة قال محدثًا نفسه: “يا له من همٍ، أن يُخلق المرء من لحمٍ ودمٍ، يشعر بالتعب فينام ليرتاح، يجوع فيأكل ليشبع، يعطش فيشرب ليرتوي. وكل هذا العناء غير عناء التفكير والتدبير إذا كان له نصيبًا من العقل.” 


غادر الرفاق الكوخ وانطلقوا ليبحثوا عن الماء، وفي طريقهم وجدوا نبعًا صغيرًا يتدفق منه الماء العذب، فشربت الفتاة واستحمت وجلست لتتناول فطورها، وفي هذه اللحظة انتبهت لسلة الخبز التي قاربت على الانتهاء، فشكرت الله على رفيقها المصنوع من القش الذي لا يجوع ولا يأكل، فما تبّقى من الخبز بالكاد يكفيها هي وتوتو لهذا اليوم.

انتهت الفتاة من فطورها وتأهبت للعود إلى طريق الأحجار الصفراء لتكمل رحلتها هي ورفيقيها، وبينما هم سائرون سمعت الفتاة أنينًا فسألت في خوف: “ما هذا؟” فأجابها خيال الفزّاعة: “لا أعرف؟ يمكننا أن نذهب لنتفقد مصدر الصوت.”
تكرر هذا الأنين مرة أخرى فانتبهوا أنه قادم من خلفهم، فرجعوا وساروا بين الأشجار، فلمحت الفتاة شيئًا يلمع تحت أشعة الشمس، ركضت نحوه وفجأة صرخت وتسّمرت في مكانها.

كانت إحدى الأشجار الكبيرة شِبه مقطوعة، ويقف بجانبها رجل مصنوع من الصفيح، ثابت لا يتحرك كأنه صنم، وفي يديه فأس مرفوعة. فنظرت إليه الفتاة في ذهول وبجانبها خيال الفزّاعة، بينما توتو راح ينبح عليه وحاول أن يعضه من ساقه الصفيحية، وكادت أن تُكسر أسنانه. 

سألته الفتاة: “أأنت الذي تتأوه؟”

أجاب الرجل الصفيح: “منذ أعوام وأنا أتأوه هنا وحدي، ولم يسمع أنيني أحد، ولم يأتِ أحد ليساعدني.”

رق قلب الفتاة لهذا الصوت الحزين فقالت له متألمة: “ما الذي يمكنني فعله لك؟”

أجابها: “هلا تحضرين الزيت وتدهني مفاصلي، إنها صدئة ولا أستطيع الحركة؛ لو دهنتيها بالزيت سأكون على ما يرام. ستجدين المزيتة على أحد الرفوف في كوخي هناك.” 

ركضت الفتاة على الفور إلى الكوخ وأحضرت المزيتة، واقتربت منه وقالت: “ها هو الزيت، أين مفاصلك؟”

أجابها: “ابدأي برقبتي.” فبدأت الفتاة بوضع الزيت على رقبته وساعدها خيال الفزّاعة وراح يحرك رأس الرجل الصفيح بلطفٍ يمينًا ويسارًا.

قال الرجل الصفيح: “الآن ضعي الزيت بين مفاصل ذراعي.” قامت الفتاة بتزييت مفاصل ذراعيه، وخيال الفزّاعة يقوم بثنيها حتى انجلت وزال عنها الصدأ.

تنفس الرجل الصفيح الصعداء وأنزل يديه وأسند الفأس على الشجرة، وقال متنهدًا: “لأعوام طوال وأنا أحمل هذا الفأس ولا أقدر على إنزال يدي. أتمّي معروفكِ وادهني ساقي، ها أنا أشعر براحة لم أشعر بها منذ زمن بعيد.” 

دهنت الفتاة ساقيه، وها هو يحركهما بحرية، وراح هذا المخلوق المسكين يشكرهما مرارًا وتكرارًا. وقال:” لو لم تأتِ لظللت واقفًا هنا في هذا العذاب، لقد أنقذتِ حياتي، تُرى ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟” 

فأجابته: “لقد توقفنا عند كوخك لنقضي فيه ليلتنا الماضية، ونحن في طريقنا إلى مدينة الزمرد، لنقابل أوز العظيم.”

سألتها: “ولماذا ترغبين في مقابلة أوز؟”

أجابته: “أريده أن يساعدني في العودة إلى موطني (كانساس)، ورفيقي هذا يريد منه أن يمنحه عقلًا.” 

في هذه اللحظة غرق الرجل الصفيح في التفكير ثم قال: “هل تظنين أن أوز قادر على أن يمنحني قلبًا؟”

ردت الفتاة: “ولما لا. أظن الأمر سهلًا تمامًا كمثل إعطاء خيال الفزّاعة عقلًا.”

فقال الرجل الصفيح: “أجل، صحيح. هل تسمحين لي بالانضمام إليكم؟ سأرافقكم في رحلتكم إلى مدينة الزمردـ، وأطلب من أوز أن يساعدني.” 

فقال خيال الفزّاعة بحماس: “نعم، تعال معنا.” وأضافت الفتاة: “بكل سرور، يمكنك أن تنضم إلى فريقنا.”


حمل الرجل الصفيح فأسه وانطلق المغامرون غبر الغابة ليسلكوا طريق الأحجار الصفراء مرة أخرى.


وطلب الرجل الصفيح من الفتاة أن تضع المزيتة في سلتها، وقال: “ربما تسقط الأمطار وتصدأ مفاصلي مجددًا، لذا سوف أحتاجها حتما.”

ومن حسن الظن أن رافقهم الرجل الصفيح بفأسه، فالطريق مليء بالأشجار الكثيفة التي كادت أن تقطع عليهم طريقهم، لولا أن قام هو بتقطيع تلك الأشجار ومهد لهم الطريق.

كانت الفتاة مستغرقة في التفكير أثناء سيرها ونسيت كومة القش التي تسقط في كل في حفرة تلقاها، وبالفعل سقط خيال الفزّاعة في حفرة على جانب الطريق ونادى الفتاة لتنقذه.


فسأله الرجل الصفيح: “لماذا لا تتفادى تلك الحفر؟” فأجابه خيال الفزّاعة ممازحًا: “لا أعرف شيئًا ولا أدرك شيئًا، لهذا أنا ذاهب لأطلب من أوز العظيم أن يمنحني عقلًا.”

قال الرجل الصفيح: “آه، فهمت. على كل حال، العقل ليس أفضل شيء في العالم.”

فقال خيال الفزّاعة متسائلًا: “ألك عقل؟”

فأجابه الرجل الصفيح: “لا، رأسي خاو على عروشه الآن، ولكن كان لي عقل وقلب من قبل، وجربت كليهما وأُفضّل أن أحظى بقلبٍ.”

سأله خيال الفزّاعة: “وما السر وراء ذلك؟”

أجابه: “سأخبرك قصتي، وحينها ستعرف السر.”

وفي طريقهم بدأ الرجل الصفيح يقص عليهم قصته.


“كان أبي حطّابًا يكسب قوت يومه من تقطيع الأشجار في الغابة وبيعها، ولما كبرت ورثت صنعة أبي، ولما مات لم يبق لي أحد غير والدتي، التي سهرت على راحتها، وفكرت في أن أتزوج لأجد من يؤنسني في هذه الحياة.
كانت هناك فتاة جميلة من معشر الأقزام وقعت في حبها، واتفقنا أن نتزوج عندما أجمع ما يكفينا من المال حتى نبني بيتًا يجمعنا، فصرت أكد وأكدح وأسابق الزمن، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. فقد كانت تلك الفتاة تعيش مع امرأة عجوز كسولة ولا تريد أن تعتق الفتاة فتفارقها، لأنها كانت تخدمها، ومن هنا تبدأ القصة؛ 

رفضت تلك المرأة فكرة زواجي من خادمتها، ودبرت لي مكيدة لتتخلص مني وتنهي تلك الزيجة قبل وقوعها، فذهبت إلى ساحرة الشرق الشريرة ووعدتها بخروفين وبقرة مقابل أن تساعدها في التخلص مني والقضاء علي. وبالفعل قامت ساحرة الشرق الشريرة بصنع تعويذة سحرية لفأسي، وذات مرة وأنا أعمل وأقطع الأشجار، سقط الفأس مني فبترت ساقي اليسرى. اسودت الدنيا في عيني وملأ الهم قلبي، فكيف لحطّابٍ أن يعمل وهو برجل واحدة، فأتت لي فكرة أن أذهب إلى الحداد، فصنع لي ساقًا من الصفيح، وعادت لي القدرة على العمل، وبدأت أعمل من جديد، فاغتاظت الساحرة واستشاط غضبها، فألقت تعويذة أخرى، أصابني على إثرها ما أصابني أول أمري وسقطت الفأس على رجلي الأخرى.

لم أفقد الأمل وذهبت للحداد وطلبت منه أن يصنع لي ساقًا كالسابقة، وعدت للعمل مجددًا، وهكذا ظلت الساحرة تلاحقني حتى فقدت كلتا ذراعي، إلى أن سقط الفأس وقطع رأسي، وفي هذه المرة ظننت أن أمري انتهى، لكن جاء الحداد صدفة فوجد ما بقي من جسدي فوجد لحالي المرير وصنع لي رأسًا من الصفيح. 

بعد كل تلك المحاولات التي قامت بها ساحرة الشرق، وفي كل مرة كنت أصر على الصمود ولم أفكر للحظة في الاستسلام أو أن أفقد الأمل، وبعد أن فقدت كل أعضائي واستبدلتها بأًخر من الصفيح، ظننت أنه لم يعد لساحرة الشرق ما تفعله بي، وكانت إثر ذلك الضربة القاصمة؛ ويا لقساوة ما فعله أعدائي بي، فقد جعلت الساحرة الفأس تسقط على صدري، فشقته إلى نصفين، وكالعادة جاء الحداد ليصنع لي صدرًا من الصفيح، لكن هذه المرة لم تكن ككل مرة، لقد فقدت قلبي.

الآن جسدي كله من الصفيح، بالأحرى ما أنا إلا جلمود حديدي، لا قلب يخفق بين أضلعي، ولا فؤاد يتفكر في حبيبته التي تنتظره. لم أعد أشعر بأي خوف لفأس تسقط، أو جرح ينزف، لم يعد هناك ما يهدد هذا الجسد الحديدي اللامع إلا الصدأ. لذلك لم أهتم بشيء غير اهتمامي بعلبة الزيت هذه، آخذها معي أين ما حللت، ولكن في يوم من الأيام نسيت أن آخذها وهبت عاصفة شديدة وسقطت أمطار غزيرةـ صدأت مفاصلي على إثرها وتصلب جسمي كله، وظللت منتصبا على هيئتي هذه التي وجدتني عليها، ولم يكن عذابي أن صدأة مفاصلي ولم أعد قادر على الحراك، لكنّ عذابي الأكبر هو أنني طوال تلك الفترة كنت أتجرع مرارة فقدان أغلى ما قد يملكه أي مخلوق، إنه القلب. لذلك أنا مصر على أن أقابل أوز وأطلب منه أن يمحني قلبًا.”

لما استمعت الفتاة وخيال الفزّاعة إلى قصة الحطّاب الملحمية، فهما ما يعنيه الحطّاب الصفيح، وأدركا ما يمثله له القلب.

وعلّق خيال الفزّاعة قائلًا: “على كل حال لم يتغير طلبي، فأنا مازلت حريصًا على أن أحصل على عقل، لأنه ماذا ينتفع المرء لو حاز قلبًا ولم يكن عنده عقل يدرك قيمة هذا القلب؟”

فقال الحطّاب الصفيح: “سأطلب القلب لا محالة، فالعقل لا يجعل المرء سعيدًا، والسعادة هي أجمل شيء في الحياة.”

أما دوروثي فلم تعلق على أيّ شيء، وكانت في حيرة من أمر رفيقيْهَا، ولم يخطر بخاطرها شيء عدى أنها لو عادت إلى كانساس حيث العمة إيم، فلا يهم أبدًا من منهما على حق.

وزاد همها حينما تذكرت تلك السلة التي لم يعد فيها إلا رغيف أو اثنين، سيلتهمها توتو، أما هي فليست مصنوعة من القش أو الصفيح حتى تعيش بلا طعام.


Downloads


Related tags