في أعالي السماء الزرقاء، حيث تتراقص الغيوم كأنها أثواب من حرير، كان أطفال جن المطر محبوسين في بيوتهم الندية منذ أمد بعيد. كان الجو في الأسفل حاراً كأنفاس التنانين ولهب البراكين، وهم، بطبيعتهم الرقيقة، يكرهون الحرارة كما يكره الظلام النور.
وفي صباح من صباحات، كان الهواء عليلا والنسيم بليلا، استيقظت أمهاتهم الغيمات من سباتها العميق، فوجدن الشمس قد توارت خلف ستائر من الضباب الكثيف. فرحن فرحاً عظيماً، وزفرن زفرة ارتياح هزت أركان السماء، ثم بشرن صغارهن المتلهفين بأنه قد حان وقت النزول إلى الأرض الظمأى للعب والمرح.
لكن الأمهات الحكيمات، بخبرتهن العريقة وحكمتهن البالغة، حذرن أطفالهن قائلات بصوت رخيم كخرير الجداول: “احذروا يا صغاري، لا تنزلوا جميعاً دفعة واحدة. أنتم بالملايين، وإن هبطتم كلكم في ذات الوقت ستغرق الأرض في طوفان من المياه. فليخرج منكم عدد قليل في كل فترة، حتى لا تثقل الأرض بأقدامكم الصغيرة.”
وعندما فتحت الغيمات أبواب السحاب، والتي بدت لوهلة وكأنها بوابات من اللؤلؤ المنثور، خرج نفر قليل من كل عائلة، متراقصين في الهواء ونزلوا برفق إلى الأرض الجافة المتعطشة لقدومهم.
ما إن لمست أقدامهم الصغيرة التراب، حتّى هللت الحدائق فرحا بقدومهم. رفعت الزهور رؤوسها المتدلية كأنها تستيقظ من حلم طويل، وابتسمت ابتسامة عريضة ملؤها الحبور والسرور. سألت الزهور بصوت ناعم كنسمات الصباح: “أين كنتم يا أحبائنا؟ مرت علينا أيام وليالٍ طويلة كأنها دهور، حتى ظننا أنكم قد نسيتم عهدنا القديم.”
أجاب الجن الصغار بصوت يشبه رنين قطرات الندى: “كيف لنا أن ننساكم؟ لكن الجو كان حاراً كأنفاس جهنم، وأمهاتنا الحكيمات منعننا من الخروج خشية أن نتبخر تحت لهيب الشمس. هذه نزهة قصيرة كومضة البرق، وعلينا العودة سريعاً. فهناك آلاف مؤلفة من إخواننا ينتظرون بفارغ الصبر دورهم في زيارة حدائقكم الغناء. لكن لا تحزنوا، فالأمطار القادمة ستحمل إليكم أفواجاً جديدة من جن المطر، تروي ظمأكم وتبعث فيكم الحياة من جديد.”
عندما سمعت الزهور الصغيرة هذا الكلام، شعرت بحزن عميق. كانت أوراقها متربة وذابلة، وعطشها يكاد يفتك بها، ولم تنعم بعد بلمسات جن المطر السحرية التي تعيد إليها بريقها ونضارتها. همست لبعضها البعض بصوت خافت كأنه حفيف الأوراق: “ماذا عسانا نفعل لنبقيهم معنا؟ إن عادوا إلى عالمهم، قد لا يأتي غيرهم. ليت الساحرة العجوز هنا، ربما تستطيع بسحرها القديم أن تساعدنا في هذه المحنة.”
قالت زنبقة نحيلة، حكيمة رغم ضعفها: “احذرن يا أخواتي! قد تجلب لنا الساحرة العجوز مصائب أكبر من مصيبتنا. أرى أنه من الحكمة أن نثق في الغيمات الأمهات، فهن أدرى بمصلحة أطفالهن ومصلحتنا.”
لكن صوت الزنبقة الحكيم ضاع وسط ضجيج الزهور المتعطشة، كما تضيع قطرة ماء في بحر هائج. فقد سارعن بأن طلبن من زهرة الخبيزة الطويلة، التي كانت تمد عنقها نحو السماء، بأن تبحث عن الساحرة العجوز وتستنجد بها لإبقاء جن المطر معهن طوال اليوم.
عندما سمعت الساحرة العجوز هذا الطلب من مكان بعيد، ضحكت ضحكة شريرة هزت أركان الغابة القريبة حيث تقطن. كانت هذه فرصتها الذهبية لنشر الشر والفوضى، متخفية وراء قناع العون والمساعدة.
قالت لزهرة الخبيزة بصوت ناعم متصنع، يخفي خلفه نوايا شريرة كظلام الليل: “عودي إلى أخواتك الجميلات وبشريهن بالخير. سينعمن بصحبة جن المطر طوال اليوم، بل سآتي لهن بكل إخوانهم أيضاً. ستكون حديقتكن جنة من الخضرة والنضارة!”
طارت الساحرة بعيداً إلى عالم السحاب، متسللة بخفة. كانت تعلم أنّ الغيمات لو علمن بوجودها، لاستدعين أطفالهن فوراً وأفسدن خطتها الشريرة. تحركت ببطء شديد، وأثناء انشغال الغيمات الأمهات، فتحت أبواب السحاب واحداً تلو الآخر، ودعت كلّ جن المطر للخروج.
همست لهم بصوت مغرٍ كأنه لحن ساحر: “هيا أيها الصغار، اخرجوا جميعاً وبسرعة البرق! إخوانكم يستمتعون على الأرض ونسوا أمركم تماماً. لن يعودوا أبداً ما لم تلحقوا بهم الآن!”
لم يجد الأطفال في أنفسهم القدرة على مقاومة هذا الإغراء. كانوا يتحرقون شوقاً للنزول إلى الأرض واللعب في الحدائق الخضراء. نزلوا في البداية بهدوء كقطرات الندى، لكن شوقهم الجامح إلى اللعب والمرح أنساهم كلّ التحذيرات، فاندفعوا بسرعة الريح العاصف.
في البداية، ضحكت الزهور ورقصت فرحاً كأنها عرائس في ليلة زفافها. غسل المطر أوراقها المغبرة وروى ظمأها الشديد، فعادت أوراقها تلمع من جديد كأنها مرصعة بالجواهر. لكن بعد فترة وجيزة، بدأت الكارثة تتكشف. تدافع أطفال جن المطر بسرعة جنونية، وأصبح المطر كثيفاً جداً، حتى إن أوراق الزهور الرقيقة راحت تتساقط واحدة تلو الأخرى كأنها دموع السماء، وانحنت سيقانها الضعيفة تحت وطأة تدافع الجنيات الصغيرة.
في غضون لحظات، امتلأت الحديقة بالماء حتى غطى العشب الأخضر، وتحولت إلى بحيرة صغيرة تتلاطم أمواجها. وفوق كلّ هذه الفوضى، كانت الساحرة ترقص وتضحك بشماتة، مستمتعة بالشقاوة التي تسببت فيها.
صرخت زهرة الخبيزة الطويلة بألم، بعدما انكسرت ساقها في خضم هذا الطوفان، وقالت بصوت متهدج: “يا ويلي! لم أكن أتخيل أبداً أن يأتي كلّ هذا العدد الهائل من جنّ المطر. ما هذه المصيبة التي جلبناها على أنفسنا؟”
تنهدت الزنبقة النحيلة، التي كانت تصارع الأمواج للبقاء منتصبة، وقالت: “هذا بالضبط ما كنت أخشاه. كان ينبغي علينا أن نثق في حكمة الغيمات. عدد قليل من أطفال الجن في كل دفعة هو الأفضل لنا جميعا.”
في هذه الأثناء، عمت الفوضى بيت السحاب عندما اكتشفت الأمهات الغيمات أنّ أبوابهن مفتوحة على مصراعيها. راحت كلّ واحدة تنادي أطفالها للعودة بصوت يشبه الرعد الهادر، لكن الصغار كانوا غارقين في نشوة اللعب والمرح، متناثرين هنا وهناك كقطرات المطر، ولم يسمعوا أي نداء.
رأت السيدة الشمس العجوز ما يحدث من عليائها، فأدرك خطورة الموقف. لم يمض وقت طويل حتى أرسلت أشعتها الحارة على الساحرة العجوز، فطردتها بعيداً كما تطرد الريح أوراق الخريف. ولما أحس أطفال الجن بأنفاسها الحارة تلفح وجوههم، أدركوا أنّ الوقت قد حان للعودة إلى بيتهم السماوي.
بدأوا يختفون الواحد تلو الآخر، كأنهم فقاعات صابون تتلاشى في الهواء. اختبأ بعضهم بين الأزهار المنهكة، وتبقى آخرون في الحديقة الغارقة. أمّا المحظوظون منهم، فقد عادوا إلى أحضان أمهاتهم الدافئة في بيت السحاب، تاركين وراءهم الحديقة في حالة يرثى لها من الحزن والدمار.
قالت إحدى الأزهار، وهي تنفض عن نفسها قطرات الماء الزائدة: “من كان يظن أن هناك هذا العدد الهائل من أطفال جن المطر؟ أقسم أنني لن أتمنى أبداً أن يبقوا معنا طوال اليوم مرة أخرى. درس قاسٍ تعلمناه اليوم.”
أضافت زهرة أخرى، وهي تحاول تقويم ساقها المائلة: “كانت الزنبقة أكثرنا حكمة. الغيمات تعرف حقاً ما هو الأفضل لنا ولأطفالها. في المرة القادمة، عندما يرسلن بعض أطفالهن، علينا أن نكون راضين بما قسم لنا ولا نطمع في المزيد.”
أما زهرة الخبيزة الطويلة، التي كانت مطروحة على الأرض كجندي سقط في المعركة، فقالت بصوت واهن: “يا ترى، هل سأتمكن من النظر إلى الأعلى مرة أخرى؟ من كان يتخيل أنني سأسقط هكذا بهذا الشكل المهين؟”