في إحدى الليالي الحالكة، حين أزف منتصف الليل، انبعث من العتمة حصانٌ أبيضُ، عظيمُ الجثة، يجري على دربٍ مقفرٍ بلا فارسٍ يُرافقه، كأنما هو روحٌ حائرةٌ قد انطلقت تبحث عن مأوى. كان لجامه من جلدٍ مذهّبٍ، يلمع تحت نور القمر كحبيبات الندى المتلألئة، وقد زُيّن بالجواهر اللامعة التي تتراقص كالنجومٍ. وكان مزودًا بسرج من المخمل الأحمر الذي يتلألأ بالذهب. توقف الحصان فجأة، واقترب من شجرةٍ وافرة الظلال، وأخذ ينظر حوله بقلقٍ كأنه يبحث عن شخصٍ يختبئ بين طيات الليل. وكانت أنفاسه تخرج متسارعةً، وكأن قلبه يخفق بشغفٍ ولهفة، باحثًا عن رفيقٍ يؤنس وحدته في ظلمة هذا الكون الفسيح.
فجأةً، تمايلت أغصان الشجرة، وتحولت إلى أميرٍ وسيم، مرتديًا بدلةً مخمليةً سوداء، وقد زينت رأسه ريشةٌ سوداء طويلة تتدلى من قبعته. ولّى نظره إلى الحصان، فمدّ يده برفقٍ وحنان، قبل أن يمتطيه برشاقةٍ كأنما هو طائرٌ ينطلق في الفضاء. انطلق الحصانُ عبر الطريق، مخترقًا الظلام، حتّى بلغ حافة جرفٍ تلٍ شديد الانحدار. هناك، توقف برهةً ورفع إحدى قوائمه الأمامية، ثم انفتحت أجنحته، التي كانت مطويةً بجانبيه، بكل ما يملك من مجدٍ وعظمة. بضربةٍ قويةٍ، انطلق الحصانُ وراكبه في أجواء الوادي، مُتوجهين نحو جبلٍ أبيضٍ ثلجي.
كان هناك منزلٌ على قمة الجبل، يتعالى في هيبةٍ وكأنه حارسٌ للأسرار. وكان الأمير، وهو في الحقيقة أميرٌ مسحورٌ، قد أُوكلت إليه من قِبَل الجنيات مهمة إنقاذ أميرة محتجزةٍ داخل ذلك المنزل نفسه. فقد اختطفت من قبل ثلاث مخلوقاتٍ وحشية، انتزعوها من أحضان والديها، واحتفظوا بها كأسيرةٍ في غياهب الظلام. ورغم محاولات الأمير المستميتة لتسلق الجبل الغادر، فإن وعورته وشدة انحداره جعلت جهوده تذهب سُدىً، كأنه حُلمٌ تلاشى في سكون الليل. ولذا، أودع سره في قلوب الجنيات، اللاتي اجتمعن ليتدبرن خطةً محكمةً تمكّنه من الوصول إلى الأميرة بواسطة الحصان الأبيض، الذي أُرسل له كرمزٍ للأمل ووسيلةٍ لتحقيق مصيره.
ولما اقتربوا من قمة الجبل، نزل الحصان الأبيض بكل هدوء، تلاه الأمير الذي أظهر براعةً في الحركة ورشاقةً في الهبوط. ربت على عنق الحصان بحبٍ وإعزاز، كأنه رفيق درب وأنيس قديم، ثم ربطه بشجرة قريبة، لتكون له ملاذًا آمنًا في هذا المكان المهيب. وفي تلك الأثناء، كانت الأميرة الشابة تجلس في إحدى الغرف المظلمة داخل منزل الجبل، مغمورةً بدموعٍ تحكي قصةَ حزنها. كانت تبكي بحرقة تعكس آلامها ومعاناتها، وكأن كل قطرة من دموعها تروي حكاية أسرها وحلمها في الخلاص.
على الرغم من أنها كانت مزينة بفستانٍ رائعٍ يفيض بألوان الزهور ويعكس أنوار الأمل، ومحاطةً بأريجٍ عطرٍ ينثر عبيره في الأرجاء، إلا أن قلبها ظل مثقلاً بثقل الأسر، كحجرٍ يثقل الخطوات. أمامها، كانت هناك طاولةٌ محملةٌ بأشهى الأطعمة، تنبض بالحياة وتدعو إلى الفرح، ولكنها لم تكن كفيلةً بإبعاد خيالها عن الوحوش الثلاثة الذين احتجزوها كرهينةٍ، فظلّ شبحهم يلوح في الأفق، يذكرها دومًا بعذاباتها وحياتها المعلقة بين الأمل واليأس.
فجأة، انفتح البابُ بصرخةٍ أحدثت صدى في أرجاء الغرفة، ليظهر الثلاثي الغريب المرعب. كان لدى أحدهم رأسٌ بقري، ويدان حافرتان متصلتان بجسدٍ بشري، يتنقل بعنفوانٍ وكأنه مستبد يتغطرسٌ في مملكته. أما الثاني، فكان يشبه أسد البحر، يمشي على رجليه الخلفيتين، وكأنما يستعرض قواه بجرأةٍ وسط انقباض الظلام.
وأخيرًا، كان هناك عملاقٌ ضخم برأس حصان يُكمل هذه المجموعة المروعة، ويجلس عابثًا على الطاولة التي اكتظت بالطعام. تهافتوا هم الثلاثة على المأكولات، وأخذوا يلتهمونها بشراهةٍ وكأنما يخوضون معركةً ضد الجوع. دعوا الأميرة الصغيرة للانضمام إليهم، لكن دموعها تدفقت بغزارة، وأخذت تتساقط كحبات المطر في يوم عاصف، وابتعدت عنهم قدر الإمكان، تبحث عن مأمنٍ يقيها شرورهم.
بعد مرور بعض الوقت، غادر الوحوش، تاركين الأميرة في عزلتها الحالكة. حينئذٍ اقتربت من الطاولة ببطء، آملاً أن تجد العزاء في الفاكهة المُقدّمة، إذ كانت قد بدأت تشعر بالضعف والإنهاك. وبينما كانت تمد يدها نحو قطعة من الكعكة، لفت انتباهها فأرٌ صغير، يقضم فيها بلا اكتراث.
فقالت له: “يا مسكين، لن أؤذيك”. لكن الفأر، وقد جلس منتصبًا، حدّق فيها بجرأةٍ بعينيه اللامعتين، ثم قال: “توقفي عن البكاء، وشاركيني في بعض الطعام. فأمامك رحلةٌ طويلة.”
فوجئت الأميرة بهذا الفأر المتكلم، فبقيت للحظة صامتة، متعجبة من هذا الموقف الغريب. وأخيرًا، ردّت بصوتٍ حزين: “لن أشرع في أي رحلة. فأنا سجينةٌ في منزل الوحوش الثلاثة. ألم تلقهم من قبل؟”
أجاب الفأر بنبرة من الإقدام: “أوه، نعم. لكن تهديدهم لا يهمني، فقامتي الصغيرة تمنعهم من الإمساك بي. لكن الآن، كلّي، فأنا هنا لأرجعك إلى الوطن.” ثم قفز الفأر إلى الأرض وأمرها بإحالة نظرها إلى الناحية المقابلة. فأطاعته الأميرة بلا تردد. حينئذٍ قال: “الآن، انظري إلي!” وعندما أدارت عينيها نحو الخلف، ظهر الأمير أمامها، وأوضح لها قائلًا: “لقد تعين علي أن أستحيل إلى مخلوق ذو حجم صغير لأتمكن من الدخول والعثور عليك. ولكن الآن، بعد أن عرفت أنني قادر على حمايتك، يجب أن أعود إلى شكل الفأر.” وفي لمح البصر، اندفع عبر الطاولة.
بحلول تلك الساعة، كان الظلام قد غلف المكان، كالسواد الذي يعمّ الكون في عمق الليل، ولم يبقَ سوى القمر، يلقي ضوءًا خافتًا، كأنه يراقب الأسرار الخفية. وقد عملت بكلمات الفأر التي أتت قاطعة على هذا النحو: “كوني عند النافذة في منتصف الليل الليلة، وسأكون هناك لآخذ بيدك بعيدًا.”
عندما دوّى صوت الثانية الأخيرة من الساعة، وحل منتصف الليل، أضاء وميضٌ لامعٌ الغرفة، مما تسبب في تحطيم قضبان النافذة. وهناك، وقف الأمير على الحصان الأبيض شاهي البياض، وبعناية بالغة، رفع الأميرة على السرج أمامه. لكن الوحوش رصدتهم وهاجمتهم. فمدّ الأمير ذراعيه، الذي انبعث منهما شعاعٌ مشعٌ من الضوء التفّ حول الوحوش، وأخذ يهتف:
“أيا سحري العجيب، حول هؤلاء الوحوش الكئيبة ومنزلهم الآن إلى حجر ساكن.”
ارتجفت الأرض باهتزاز عجيب، وانتشر نورٌ ساطع من الحصان الأبيض الذي مدّ جناحيه بقوة، مرفرفًا فوق هذه الأراضي التي انطبق عليها السحر وحولها. ألقت الأميرة نظرةً إلى الأسفل، فرأت أنّ الجبل والمنزل قد استُبدلا بثلاث قمم مدببة، وكأنها أسنانٌ بارزةٌ من فم جبلٍ هائج.
تلك كانت نهاية الوحوش، إذ حول الأمير قلوبهم المظلمة إلى أحجار، وأفنى قدرتهم على جلب البؤس وإلحاق الأذى بالآخرين. فما كان لوالدي الأميرة الصغيرة، اللذان فقدا الأمل منذ زمن بعيد في لقاء ابنتهما إلا أن دعيا الأمير للاقتران بفلذة كبديهما.
ومع انبلاج فجرٍ جديد، حيث تلاقت أشعة الشمس بألوان الطيف، تفتحت الأزهار وأطلقت الطيور تغاريدها في الفضاء، معلنةً عن ولادةِ فصلٍ جديدٍ في حكاية الحياة. إذ أنّ الحب، كما السحر، يُعيد بناء ما تهدم، ويزرع الأمل حيث أُزهِر اليأس، لتبقى الحكاية قائمةً، ترويها الألسن وترسمها القلوب، في دوائر الزمن، تسير بطرقات الأقدار، ليظل نور الأمير وتأثيره محفورًا في الذاكرة، كنجمةٍ ساطعةٍ تضيء ليالينا.