الجنية المفقودة

في غابر الأزمان، وسالف العصر والأوان، وقعت أحداث قصتنا العجيبة. قصة جنيةٍ فاتنة، ذات جمالٍ أخّاذ وروحٍ كقطرات الندى، هامت في حب بشريٍّ وسيم، فكان قدرها أن تخوض غمار تجربةٍ استثنائية، مليئة بالمخاطر والمغامرات.

في ليلةٍ من ليالي الصيف الساحرة، حيث كان القمر يرسل أشعته الفضية لتداعب أوراق الأشجار، ضلّت جنيتنا الحسناء طريقها عن رفيقاتها وملكتها الصارمة. وكأنما قادها القدر بخيوطه الخفية، وجدت نفسها تحلّق فوق قمة جبلٍ شاهق، حيث كان يقطن فتىً فقير، لكنه كان يمتلك من الوسامة ما يكفي لأسر قلوب العذارى وإذابة جليد أقسى القلوب.

وقع بصر الجنية على هذا الفتى النائم تحت ضوء القمر، فخُطف لبها وسُلب عقلها. كانت هيئته أشبه بلوحةٍ فنية؛ ملامحه النبيلة، وشعره الأسود الفاحم الذي يداعبه نسيم الليل، وهدوء تنفسه الذي يوحي بسلامٍ داخلي عميق. في تلك اللحظة، أدركت الجنية أن قلبها قد وقع أسيرًا لهذا البشري الفتّان.

مع إدراكها لاستحالة زواجها من بشري – إذ كان هذا أمرًا محرمًا في عالم الجن – إلا أن قلبها المتيم دفعها لاتخاذ قرارٍ جريء. عزمت على أن تكون مع حبيبها، مهما كلفها الأمر. وهكذا، وبقلبٍ يخفق بالحب والأمل، طارت الجنية كالسهم نحو كوخ ساحرةٍ عجوز كانت قد ساعدتها في الماضي.

وصلت الجنية إلى كوخ الساحرة، الذي كان يبدو وكأنه قد نُحت من جذع شجرة عملاقة. الدخان المتصاعد من المدخنة كان يتخذ أشكالًا غريبة في الهواء. طرقت الباب بيدٍ مرتعشة، وما إن فُتح حتى اندفعت لتروي قصتها للساحرة العجوز، عيناها تلمعان بدموع الرجاء والأمل.

بصوتٍ متهدج بالعاطفة، قالت الجنية: “أيتها الساحرة الحكيمة، إنّي متيمة بحب بشري، وقلبي يتمزق بين واجبي كجنية وشوقي لأكون معه. أرجوكِ، ساعديني لأصبح بشرية. فبدون حبي هذا، لن أعرف السعادة في هذه الدنيا أبدًا.”

نظرت إليها الساحرة العجوز بعينين حكيمتين، تشعان بالفهم والحذر في آنٍ واحد. وبصوتٍ عميق كأصداء الكهوف القديمة، حذرتها قائلة: “يا بنيتي، هل تدركين حقًا عواقب ما تطلبين؟ إن اكتشفت ملكتك أمرك، فحتى لو صرتِ بشرية، فإن مصيرك سيكون وخيمًا.”

لم تتزعزع الجنية. بل على العكس، زادها التحذير إصرارًا. أجابت بحزمٍ وعزيمة: “نعم، يا سيدتي. أعي تمام الوعي ما أقدم عليه. لكن قلبي مستعد للمخاطرة بكل شيء من أجل حبي. أتوسل إليكِ، يا سيدة السحر والحكمة، حوليني إلى بشرية على عجل، كي أعود إلى حبيبي قبل أن تطل شمس الصباح على جفنيه.”

تنهدت الساحرة، مدركةً أن عزم الحب لا يُقهر. وافقت على طلب الجنية، وبدأت في تحضير تعويذتها. في لحظاتٍ معدودة، تحولت الجنية الفاتنة إلى فتاةٍ بشرية تشع جمالًا وحيوية. ثم قدمت لها الساحرة زوجًا من الأحذية المسحورة، يتلألأ بوميض خافت في ظلام الكوخ.

وبصوتٍ جاد، حذرتها الساحرة: “استمعي جيدًا، يا بنيتي. هذا الحذاء مفتاح عودتك وخطر كشفك في آنٍ واحد. حالما تصلين إلى قمة الجبل، ألقيه بعيدًا. فإن وقع في أيدي ملكتك أو أخواتك الجنيات، سيعرفن على الفور أنك الهاربة، وسيواصلن البحث عنك حتى يعثرن عليك.”

وعدت الفتاة، التي كانت جنية قبل لحظات، باتباع تعليمات الساحرة بدقة. ارتدت الحذاء السحري وانطلقت تتسلق الجبل، قلبها يخفق بشدة مع كل خطوة تقربها من حبيبها.

وصلت إلى قمة الجبل، حيث كان حبيبها لا يزال غارقًا في نومه العميق. كان منظره أكثر فتنة مما تذكرت، وفي غمرة سعادتها بالوصول إليه، نسيت تمامًا أمر الحذاء السحري وتحذيرات الساحرة.

فتح الفتى عينيه ببطء، ليجد أمامه أجمل مخلوقة رآها في حياته. عيناها تشعان حبًا وحنانًا، وابتسامتها تضيء الليل حولهما. في تلك اللحظة، وقع في حبها دون تردد، وطلب منها أن تصير زوجته، غير مدركٍ للقصة العجيبة التي أوصلتها إليه.

في تلك الليلة نفسها، وبينما كان العروسان يغرقان في سعادتهما، كان عالم الجن يضج بالاضطراب. اكتشفت ملكة الجن غياب إحدى جنياتها، فاستشاطت غضبًا وأمرت بحملة بحث شاملة. صوتها الغاضب دوى في أرجاء المملكة: “فتشن كل ركن وزاوية! وإن كانت قد هربت، فلتستعد لعقابٍ لم تره من قبل!”

انطلقت الجنيات في كل اتجاه، يفتشن بين أوراق الشجر وتحت الصخور وحتى في أعماق الأنهار. لكن جهودهن باءت بالفشل، فلم يعثرن على أثرٍ لشقيقتهن المفقودة. ظنّ بعضهن أنها ربما ضلت طريقها وتاهت في عالم البشر.

لكن الملكة، بحكمتها وخبرتها، لم تكن مستعدة للتخلي عن البحث بهذه السهولة. بعزمٍ وإصرار، أعلنت: “واصلن البحث! لن تظل مختفية إلى الأبد. إما أنها هربت وتحولت إلى بشرية، أو سنعثر عليها الليلة. هيا بنا نفتش قمم الجبال، وسأرافقكن بنفسي.”

في هذه الأثناء، كانت الجنية المتحولة تعيش أسعد أيام حياتها مع زوجها الذي أحبها بكل جوارحه. لكن سعادتها كانت مشوبة بظل من الحزن كلما تذكرت أنها لم تخبره بحقيقة أصلها. أما الحذاء السحري، فقد أخفته بعناية تحت شجيرة صغيرة قرب كوخهما، معتقدةً أنها قد تحتاج إليه يومًا ما.

لكن القدر كان له رأي آخر. فقد عثرت ملكة الجنيات على الحذاء السحري، وعرفت على الفور أنه ينتمي لجنيتها الهاربة. صاحت بصوتٍ مليء بالغضب والتصميم: “وجدناها أخيرًا! إنها هنا، على قمة هذا الجبل. لا بد أنها تحولت إلى بشرية. سنجدها، وستنال عقابًا صارمًا على فعلتها هذه.”

حلّقت الملكة وجنياتها حول الجبل حتى وصلن إلى الكوخ الصغير حيث تعيش الجنية المتحولة مع زوجها. نظرن من النافذة، والملكة تحاول التأكد من هوية الفتاة بالداخل. عرفت أن الطريقة الوحيدة للتأكد هي اختبار بسيط؛ فالجنيات وحدهن يستطعن رؤية بعضهن البعض عندما يتخفين عن أعين البشر.

طرقت الملكة على النافذة بعصاها السحرية، متخفية عن الأنظار. وفي اللحظة التي نظرت فيها الفتاة نحو النافذة، شحب وجهها وعرفت الملكة أنها قد وجدت ضالتها.

لاحظ الزوج شحوب وجه زوجته وقلقها المفاجئ، فاحتضنها بحنان سائلًا عما أصابها. طمأنته بابتسامة باهتة، مدعية أن إبرة قد وخزتها فجأة.

في تلك الليلة، وبينما كان زوجها غارقًا في نومه، تسللت الفتاة خارج الكوخ. كانت تعلم أن الملكة قد جاءت لاصطحابها، وأن أمامها فرصة واحدة للهرب. قررت أن تأخذ الحذاء السحري وتهرع إلى الساحرة العجوز قبل أن تتمكن الملكة من لمسها بعصاها السحرية.

بخطواتٍ حذرة وقلبٍ يخفق بشدة، اقتربت من الشجيرة حيث خبأت الحذاء. لكن ما إن مدت يدها لتلتقطه، حتى انبثقت الجنيات من تحته كالفراشات الليلية. وقبل أن تتمكن من الهرب، مدت الملكة يدها بعصاها السحرية ولمست رأس الفتاة.

في لحظةٍ خاطفة، تحولت الفتاة الجميلة إلى أرنبٍ أبيض صغير، وانطلقت تعدو بسرعة البرق نحو أعماق الغابة الكثيفة، تاركةً خلفها حياتها البشرية وحبها الذي ظنته أبديًا.

وقفت الملكة، وعيناها تشعان بمزيجٍ من النصر والغضب المكتوم. التفتت إلى جنياتها اللاتي كن يشاهدن المشهد بذهول، وقالت بصوتٍ صارم كصوت الرعد: “أرأيتن، أيتها الجنيات، ما يحدث لمن تتجرأ على الهروب أو التحول إلى بشر؟ هذا هو مصير من تخالف قوانيننا المقدسة. ستبقى أرنبًا أبيض إلى الأبد، منفية من عالم الجن، وليس أمامها سوى طريقٍ واحد شبه مستحيل للعودة إلى هيئتها البشرية.”

ارتجفت الجنيات خوفًا وهن يستمعن إلى كلمات ملكتهن، وتعهدن في قلوبهن ألا يحذون حذو أختهن الضالة. لكن عيونهن كانت مليئة بالحزن والشفقة وهن يتابعن الأرنب الأبيض وهو يختفي بين الأشجار الكثيفة.

مع بزوغ فجر اليوم التالي، استيقظ الفتى ليجد سريره خاليًا من زوجته الحبيبة. اعتصر القلق قلبه، وانتفض من فراشه كالملسوع، يفتش في كل ركنٍ من أركان كوخهما الصغير. صوته يتردد في أرجاء المكان وهو ينادي اسمها بلهفة ويأس.

خرج مسرعًا إلى سفح الجبل، عيناه تمسحان كل بقعة، أذناه ترهفان السمع لأي صوت قد يدله على مكانها. لكن زوجته كانت قد اختفت فجأة كما ظهرت فجأة؛ في غموضٍ تام. بدأت الشكوك تتسلل إلى عقله، وتساءل في حيرة إن كانت زوجته التي أحبها بكل جوارحه كانت في الحقيقة كائنًا سحريًا طوال الوقت.

مرت الأيام ثقيلة على الفتى الحزين. كان يقضي ساعاتٍ طويلة جالسًا أمام كوخه، عيناه شاردتان في الأفق، ودموعه تنهمر بصمت على زوجته المفقودة. وفي أحد الأيام، بينما كان غارقًا في أحزانه، اقترب منه أرنبٌ أبيض صغير. توقف الأرنب عند قدميه، وبدأ يفرك رأسه الناعم بساق الفتى في حنان.

نظر الفتى إلى الأرنب الصغير، وشعر بشيءٍ غريب يتحرك في قلبه. انحنى والتقط الأرنب برفق، ضمه إلى صدره وبدأ يمسد فروه الناعم بيده. همس بصوتٍ مختنق بالدموع: “أيها المخلوق الصغير اللطيف، هل فقدتَ رفيقك أنت أيضًا؟ أتشاركني حزني وألمي؟”

وضع الفتى الأرنب على الأرض، متوقعًا أن يفر هاربًا إلى الغابة. لكن، لدهشته الشديدة، بقي الأرنب قريبًا منه، ينظر إليه بعينين واسعتين مليئتين بالحنان والفهم. عندما هَمّ الفتى بالدخول إلى كوخه، قفز الأرنب خلفه، مصرًا على البقاء بجواره.

أشفق الفتى على الأرنب الصغير، وسمح له بالدخول معه. قدم له بعض الخس والخضروات الطازجة، وصنع له سريرًا صغيرًا بالقرب من فراشه. وجد الفتى في وجود الأرنب عزاءً غريبًا؛ كأنه صديقٌ صامت يشاركه أحزانه ويخفف من وحدته القاتلة.

في أحد الأيام، بينما كان الفتى يتجول على سفح الجبل كعادته، لفت انتباهه شيءٌ يلمع تحت شجيرة صغيرة. اقترب ليجد حذاءً صغيرًا، بدا وكأنه مصنوعٌ من مادة غريبة تشع بريقًا خافتًا. حمل الحذاء معه إلى الكوخ، مندهشًا من جماله وغرابة أمره.

ما إن دخل الكوخ حاملًا الحذاء، حتّى قفز الأرنب الأبيض نحوه في حماس غير معهود. جلس الأرنب بجوار الحذاء، وبدأ يدفعه بأنفه كأنه يحاول إخبار الفتى بشيءٍ ما. لاحظ الفتى تصرف الأرنب الغريب، وبدافعٍ من الفضول، التقط الأرنب ووضعه داخل الحذاء.

وفي لحظةٍ سحرية، طار الحذاء من يد الفتى وخرج من الكوخ كالسهم، والأرنب لا يزال بداخله. انطلق الفتى خلفه، قلبه يخفق بشدة وعقله يكاد ينفجر من الدهشة والحيرة. تابع الحذاء وهو يهبط من على الجبل ويدخل أعماق الغابة، حتى توقف أخيرًا أمام كهفٍ غريب الشكل.

وقف الفتى مذهولًا يشاهد المشهد الذي تكشف أمامه؛ الحذاء السحري والأرنب الأبيض أمام ساحرةٍ عجوز ذات هيئة مهيبة. سمع الساحرة تتحدث إلى الأرنب قائلة: “آه، لقد عثرت عليكِ الملكة إذن؟ ألم أحذرك من الاحتفاظ بالحذاء؟ الآن، لم يعد أمامك سوى طريقٌ واحد للعودة إلى هيئتك البشرية؛ يجب أن يطلب منك بشريٌ الزواج. وهذا، للأسف، أمرٌ شبه مستحيل، فالبشر لا يتزوجون من الأرانب.”

طأطأ الأرنب رأسه في حزن، وبالرغم من عدم قدرته على الكلام، كان من الواضح أنه فهم كل كلمة قالتها الساحرة.

وقف الفتى مصدومًا، وقد بدأت خيوط القصة تتجمع في ذهنه. أدرك فجأة سر اختفاء زوجته، وعرف أن الأرنب الأبيض الذي آواه كان في الحقيقة زوجته الحبيبة. بدون تردد، تقدم نحو الساحرة وصاح بصوتٍ مليء بالعزم والحب: “أيتها الساحرة الحكيمة، أنا على استعداد للزواج من هذا الأرنب الأبيض. أرجوكِ، باركي زواجنا وأعيدي إليّ زوجتي الحبيبة!”

ابتسمت الساحرة ابتسامة عريضة، وأومأت برأسها في رضا. رفعت عصاها السحرية وأشارت بها نحو الفتى الذي كان يحمل الأرنب بين ذراعيه. وفي لحظةٍ مبهرة، اختفى الأرنب الأبيض، ووجد الفتى نفسه يحتضن زوجته الحبيبة، التي عادت إلى هيئتها البشرية الجميلة، محررة إلى الأبد من تعويذة ملكة الجنيات.

قالت الساحرة بصوتٍ دافئ: “لقد أثبتما أن الحب الحقيقي يتجاوز كل الحدود والأشكال. إليكما بركتي هديةً لشجاعتكما. ولكن احذرا، عندما تعودان إلى بيتكما، يجب أن تنظرا داخل فردة الحذاء الأخرى. ثم ألقيا بها من قمة الجبل على الفور، وإلا فقد تتكرر المأساة من جديد.”

وعدت الزوجة، التي استعادت ذاكرتها الكاملة الآن، بأن تفي بوعدها هذه المرة دون تردد أو نسيان.

عبّر الزوجان عن امتنانهما العميق للساحرة العجوز، ثم أسرعا عائدين إلى كوخهما، قلباهما يخفقان بالحب والسعادة. وما إن دخلا الكوخ، حتى نظرا بلهفة داخل الحذاء الآخر. وكانت المفاجأة التي انتظرتهما هناك أكثر روعة مما تخيلا؛ وجدا طفلة رضيعة صغيرة تبتسم لهما ببراءة ملائكية.

ضمت الزوجة الطفلة إلى صدرها بحنانٍ غامر، ثم التفتت إلى زوجها قائلة بإلحاح: “أسرع، حبيبي! خذ الحذاء وألقِ به بعيدًا من قمة الجبل. يجب أن تبقى ابنتنا بشرية إلى الأبد. فربما لن تكون محظوظة مثلي لتجد إنسانًا شجاعًا مثلك، مستعدًا للزواج من أرنب من أجل استعادة حبيبته.”

لم يضيع الزوج لحظةً واحدة. أسرع إلى قمة الجبل وألقى بالحذاء السحري بعيدًا في الوادي السحيق. ثم عاد مسرعًا إلى كهف الساحرة العجوز، وطلب منها بإلحاح أن تكون عرّابة لطفلتهما الصغيرة. ابتهجت الساحرة العجوز بهذا الطلب، ووافقت على الفور. رفعت عصاها السحرية فوق رأس الطفلة الصغيرة، ومنحتها هبةً ثمينة؛ وعدًا بحياةٍ مليئة بالسعادة الأبدية، وأن تنمو لتصبح فتاةً في غاية الجمال والطيبة.

عاش الزوجان وطفلتهما في سعادةٍ غامرة، محاطين بحبٍ عميق تخطى حدود العوالم والأشكال. ولم يعرفا أبدًا ما إذا كانت ملكة الجنيات قد علمت بما حدث أم لا. ولكن حتى لو علمت، فإنها لن تجرؤ على إخبار جنياتها بالحقيقة. فلو عرفن أن هناك طريقًا للسعادة الحقيقية بعيدًا عن سلطتها، لما بقيت واحدة منهن تحت طوعها.

وهكذا، أسدل الستار على قصتنا العجيبة، تاركًا لنا درسًا خالدًا عن قوة الحب الحقيقي، وأنه قادرٌ على تخطي كل الحواجز مهما كانت. 

القطة الخضراء


وقفت الساحرة العجوز بيتو على عتبة كهفها المهيب، الذي يعانق قمة جبل سامق؛ وذراعاها النحيلتان الطويلتان ويديها ذوات المخالب الطوال المشابهة لمخالب الكواسر تميزها عن باقي الخلائق. بينما كانت الرياح تعصف بخصلات شعرها الرمادي المتناثرة، فتبدو كقرون الماعز تلتف حول وجهها الشرير البغيض.

وكانت نار غضب الساحرة العجوز تتأجج، إذ إن أهالي القرية قد أقاموا حفلًا مبهجًا لم يعروا لها فيه أي اهتمام.

ولكن من كان ليخطر بباله أن يدعو هذه العجوز إلى أي أمرٍ من الأمور؟ فظهورها في القرية كان دائمًا نذير شؤم ومجلب مصائب، إذ بسببه قد يفقد أحدهم بقرته، أو تستحيل مياه بئره خضراء نتنة، فيحرم أهل القرية من مشربهم. والأسوأ من ذلك أن الأطفال الذين وقعت عليهم عينها الشريرة قد أصابهم التشوه، وكأن لعنتها قد حلّت بهم.


ولكن كل ذلك لم يكن ليخطر ببال هذه الساحرة، التي كانت تستدعي المطر من كهفها الشاهق لتجلب الفساد على حفلتهم، مُحيلةً الأنس إلى وحشة. فما كان ثمة سابقة لمثل هذا المطر الذي أنزلته؛ إذ استحال الوادي إلى نهر جارٍ، واندثرت جميع الزينات التي أُعِدَّت لذلك الحفل. أما الأطفال، فقد تحسروا على ما فاتهم من المرح. 


وقد كان مقدرًا لهانز وغريتشن أن يُتمِّا عقد زواجهما في هذا الحفل البهيج، بيد أن عيني غريتشن الرائعتين قد انقلبتا إلى لون الدم جراء دموعها الغزيرة، إذ إن القبعة الجديدة والتنورة المطرزة المجهزتان للحفل ستتعرضان للتلف إذا ارتديتا في هذه الأجواء. ولم تخف على العروس حقيقة أن الزواج بملابس قديمة سيظل في خلد الناس ذكرى لا تُمحى.

ولذلك كان هانز يكتنفه الحزن، إذ غابت عنه ابتسامة حبيبته غريتشن. فقال لها وهو يُقبلها قبيل النوم: “جففي عينيك، يا حبيبتي؛ فلأجلك سأقوم بالمستحيل ولو عنى ذلك استجلاب أشعة الشمس من جديد، بل حتى لو استدعى الأمر أن أصعد إلى قمة الجبل وأجلبها من بين كنف الغيوم.”

لم يكن لدى هانز أدنى تصور عن كيفية إنجاز ذلك، لكنه لم يستطع أن يترك حبيبته الجميلة تئن تحت وطأة الهموم بلا كلمة تخفف عنها الألم.

لم يمضِ وقتٌ يسير حتى سمع هانز شيئًا يصدر صوت بجانبه. فأخذ يفكر في نفسه: “ما هذا إلا كلبٌ مسكينٌ يبحث عن مأوى.” ولما أرجح فانوسه إلى مكانه، فإذ به يبصر ضفدعًا صغيرا يقبع في ركن من الحديقة في ظلام الليل.

حينئذٍ قال الضفدع: ” “إنكم في وابلٍ من المطر. يا لكم من مساكين.” فوجئ هانز بهذا الكلام حتى عجز عن الرد، غير أن الضفدع عاد ليقول بجرأة: “هل تود أن تعلم كيف تُوقفها؟” عندئذٍ، استرجع هانز عافيته بعد الفزع الذي ألمّ به من هول المفاجأة.

أجاب هانز: “لا شك في ذلك، كيف أقدر على هذا الأمر؟”

فقال الضفدع: “إن كنت تملك من الشجاعة ما يُعينك على صعود قمة الجبل الشامخ، وبلوغ العجوز الساحرة بيتو، فبإمكانك ذلك. إنها حانقة عليكم، إذ لم توجهوا إليها دعوة إلى حفلتكم البهيجة، ولذا فإنها تُرسل السيول عليكم في الوادي كعقابٍ لكم، وكم من عذابٍ ينسل من بين الغيوم!”

فقال هانز: “أخشى ألا تستجيب لي وتعرض عني.” 


فرد الضفدع: “كلا، فيمكنك أن تُلزمها بإنهاء المطر عبر العثور على القط الأخضر.”


Downloads