وحش البحر الخيِّر

في عمق المحيط الواسع، حيث تتمايل الأمواج في رقصتها مع الأفق، توجد جزيرة نائية غامضة، محاطة بالأساطير التي تسرد حكايات الأزمان الغابرة. في أعماق البحار بالقرب من تلك الجزيرة النائية، عاش وحش بحري ذو رأس هائل يبرز ككهفٍ مظلم، حين يفتح فاه، يبدو كأنه فوهة عميقة بقرب جرف سحيق، مما يثير الرعب من هوله. 

يُقال أنّه كان ضخمًا حتى أنه قادر على ابتلاع سفينة بأكملها، وأنه في الليالي العاصفة كان يعلو فوق الصخور، متلألئًا بعينيه كنجوم غائرة. كان البحارة يتحدثون عنه بخوفٍ وارتعاش، ويحيكون حوله قصصًا تثير الفزع. ولكن في واقع الأمر، كان هذا الوحش البحري صديقًا مخلصًا؛ إذ كانت عيناه اللامعتان في ظلام الليل بمثابة دليل للبحارة نحو الأمان وسط العواصف الهوجاء، بينما كان مظهره الضخم يوحي للجميع بأنّه وحشٌ قاس، ولكن في حقيقة الأمر كان هو الحامي الحقيقي للبحر.

في إحدى الليالي العاصفة الرهيبة، حين كان المحيط يعج بصخب الأمواج وزفير الرياح، غاص الوحش البحري الأعماق ليبحث عن أي سفينة غارقة أو ناجٍ طافٍ على سطح الماء. كان قلبه الواسع ينبض بالرحمة، وقد عزم على تقديم العون لمن يحتاجه. 

في خضم العاصفة العاتية، لمح الصبي الصغير كوكو، الذي كان يطفو على لوح خشبي تتلاعب به الأمواج العاتية. عندما رأى كوكو الوحش، اجتاحه الخوف والذعر، ولكن سرعان ما زال توتره حين اكتشف أن الوحش لم يكن يحمل نية سوء. 

برغم خوفه، أظهر كوكو شجاعة نادرة، فتسلق على ظهر الوحش، الذي بدأ يتحرك ببطء ليأخذ الصبي إلى الجزيرة الصخرية. وبعد أن وضعه بأمان على اليابسة، عاد الوحش إلى البحر، تاركًا كوكو وحده في هذا المكان المنعزل. فتسللت مشاعر القلق إلى قلب الصبي، متسائلًا عما إذا كان سيُترك في هذا المكان البعيد. غير أنّ أمله لم يخب، إذ عاد الوحش من أعماق المحيط، وفتح فاه على مصراعيه كمن يدعو كوكو للركوب مرة أخرى. 

فَرَّ الصبي عندما شاهد فم الوحش الهائل المفتوح معتقدًا أن الوحش قد عزم على ابتلاعه. غير أنّ الوحش لم يبتلعه، فعاد كوكو إلى مكانه بعد لحظات من التردد. فتح الوحش فاه مجددًا وسأله الصبي بلهجة مطمئنة، “أترغب مني الدخول؟” أومأ الوحش برأسه، ففكر كوكو قليلا: “يبدو أن هذا لمصلحتي، فهو قادر على ابتلاعي بسهولة دون حاجة لفتح فمه الكبير إلى هذا الحد.”

دخل الولد فمَ الوحش الهائل، وواصل تقدمه عبر ممر مظلم يكتنفه الغموض. لم يكن يدرك بعد ما الذي يريده الوحش منه، لكنه مضى قدُمًا، متحديًا الأسرار التي يخبئها الممر، حتى وصل إلى قاعة مضيئة تتلألأ فيها الأضواء بنعومة. هناك، وجد موقدًا وكراسي وطاولة. 

تأمل كوكو تلك الأدوات، وقال في سره: “لا شك أن هذه الأدوات ستفيدني.” ثم قام بنقلها إلى الكهف في الجزيرة، حيث أعدَّ مكانًا لتخزينها. وعندما عاد، كان الوحش قد اختفى، ولكن سرعان ما عاد وفتح فمه مجددًا. دخل الصبي هذه المرة دون تردد، ليكتشف صناديق وبراميل مملوءة بألوان شتى من الطعام. وبدأ في ملء الكهف بكل ما أحضره، ثم لاحظ الوحش مستلقيًا بارتياح بعد عناء طويل، يستعيد قواه في سكينة وهدوء.

وبعد أن أتمّ كوكو إعداد عشاءه، اقترب من الوحش بتوقيرٍ كبير، قائلاً: “العشاء جاهز، يا سيدي.” فهز الوحش رأسه في لفتة من الإمتنان، ثم انغمر في أعماق المحيط، وعاد سريعًا بفمٍ مملوءٍ بألوان طازجة من الأسماك مشيرا إلى أن ذلك ما يفضله من الطعام حقيقة. في تلك اللحظة، أدرك كوكو أن الوحش قد انتزع كلّ تلك الأطعمة من أعماق السفينة الغارقة خصيصًا من أجله، أي أنه لا يحتاج إلى أيّ من تلك الأطعمة، فغمر قلبه أمل عميق، وتمنى لو أنّ الوحش كان قادرًا على النطق، ليتبدد عنه خوفه ويُزيح الغموض الذي يكتنفه. قال كوكو بصدق من الأعماق: “أملي أن نتحدث سويا.”

فأجابه الوحش بصوتٍ هادئٍ كهمس البحر: “إنني في الحقيقة قادر على الحديث. لم يعبّر أحد عن رغبته في ذلك من قبل. لقد حولتني ساحرةٌ قديما إلى هذا الشكل البشع وسجنتني بقرب هذه الجزيرة النائية. والطريقة الوحيدة التي أستطيع بها العودة إلى هيئتي الأصلية هي أن يتمنى أحدهم ذلك بصدق.”

أجاب كوكو بعزمٍ وصدق: “أتمنى من كلّ قلبي أن تتحقق هذه الأمنية.”

فقال الوحش بجديةٍ: “لقد نلتَ ما تمنيته، وأصبحتُ قادرًا على الحديث الآن؛ ولكن لكي أستعيد هيئتي الإنسانية، يجب أن يتمنى شخص آخر هذا بصدق وعزم.”

عاش الوحش البحري وكوكو على الجزيرة طويلاً، حيث أضحت العلاقة بينهما مثالًا على الوفاء والصداقة المتينة. كان الوحش رفيقًا مخلصًا للصبي الصغير، يحمله في مختلف الجولات البحرية الطويلة، حيث الأمواج العاتية والأعماق المخيفة. وعندما تشتد الأمواج ويعلو صخب البحر، كان الوحش يفتح فمه ليكون ملاذًا آمنًا، يلتجئ إليه كوكو ليعود به إلى الجزيرة سالما.

وفي إحدى الليالي، بعد عاصفة هوجاء هزت أركان البحر، لاحظ كوكو شيئًا يتلاعب على سطح الماء. فصعد على ظهر الوحش، وسبحا معًا نحو ذلك الشيء الغامض. وعند وصولهم، اكتشفوا أنها فتاة صغيرة، في سن كوكو تقريبا، ضلت طريقها من إحدى السفن الغارقة. فحملها إلى الجزيرة برفق، وكشف لها الصبي كيف أنّ الوحش قد أنقذه من قبل كما أنقذها الآن. في الأثناء جلب لهما الوحش ما يحتاجانه من طعام وفير. وهكذا بدأ في قلب الفتاة ينمو حبٌ عميق للوحش، وتطورت مشاعرها إلى حب صادق، كما أحبّه كوكو، فأصبحت الفتاة تحبه حقا كما فعل الصبي.

ذات يوم، بينما كانوا في خضم التحضير للرحيل، جلست الفتاة على ظهر الوحش بجانب كوكو، وتلفظت بأمنيةٍ نابعة من أعماق القلب: “ليت هذا الوحش كان إنسانًا.” في تلك اللحظة التي تماهت فيها الأماني مع السحر، قفز الطفلان إلى الماء، ليجدا الوحش قد تحول إلى شيخٍ مسن، يعلوه نور الحكمة ويتجلى عليه وقار القدماء. عانق الشيخ الطفلان بذراعيه، وقادهما إلى الشاطئ.

سأل كوكو بفضولٍ عميق: “ماذا عن الطعام الآن، وقد عدت إلى هيئتك الإنسانية؟”

أجاب الشيخ، مبتسمًا بوقارٍ وسكون: “لم نعد في حاجة إلى شيءٍ بعد الآن. إنني سيد البحر، وقد استعدت قواي ومقامي بعد أن عدت إلى هيئتي الأصلية. سنحوّل هذه الجزيرة إلى جنة خضراء، وعندما تكبران وتتحقق أمانيّكما، سيكون لكما قلعة مزخرفة بفنون الزخرف والبهاء، وسيسهر على خدمتكما جميع خدم البحار والحوريات. لن ينقصكما شيء، وستسكن الطمأنينة حياتكما وتزدهر فيها الأماني والأحلام.”

ثم أضاف، بصوتٍ عذبٍ مليء بالفرح: “سآخذكما أيضا إلى أعماق المحيط، حيث تتعانق الدلافين وتسبح في حضن المحيط الأزرق اللامتناهي.”

وهكذا، في تلك الجزيرة البهيجة، حيث تمتزج ألوان البحر مع خضرة الجنان، استمر كوكو والفتاة الصغيرة في عيش حياةٍ غمرتها السعادة والأمل، تحت ظل وعد الرجل العجوز والذي كان في الحقيقة مارد المحيط شديد القوى. كانت الأيام تمر كألحانٍ خلابة، حيث تتجسد الأحلام والآمال.  وكلما أشرقت الشمس على تلك الجزيرة، كانت الذكريات تُنسج، وكأنها خيوط الذهب في نسيج الزمن. فظلّت قصتهم خالدة، ترويها الأمواج وتكتبها النجوم، قصةً من الوفاء والصداقة تنير دروب الأجيال القادمة.


Downloads


Related tags