نيكو والغول

كان في سالف الدهر، وعلى ضفاف نهرٍ عميقٍ جارٍ، يسكن غولٌ لا يكتفي من الشر شبعه، ولا يملأ نهمه جوفه. فما إن تجري في النهر سمكةٌ حتى تكون لقمةً سائغةً في فيه، يلتهمها بغير رحمةٍ ولا روية، فلا يترك لأهل البلدة القريبة نصيبًا من الصيد، ولا يقنع بما وهبهم الله من رزق هذا الماء. وكان فوق ذلك إذا أوى إلى منامه، انطلق من صدره شخيرٌ يُرجف له الوادي، وتتهاوى منه السكينة، فيرتعد الأطفال، وتفزع قلوبهم، فلا يغمض لهم جفن، ولا ينعمون بنومٍ هانئ. وظل الناس على هذا الحال، يعانون من جوعٍ وخوفٍ حتى اتفقوا على رأيٍ واحد، واجتمعوا على كلمةٍ سواء: أن لا بد من قطع دابر هذا الغول، علّهم يسترجعون أمنهم وهدوءهم.

وفي يومٍ من الأيام، نهض شابٌ من بينهم يُدعى نيكو، كان في عينيه بريق العزم وفي قلبه نار الحماسة، فقال مخاطبًا القوم: “سأمضي إلى الساحرة العجوز التي تسكن أعماق الغابة، وأسألها كيف السبيل إلى الخلاص من هذا الطاغية المتسلط.”

لم يثنه الخوف من الغابة المظلمة ولا رهبة الساحرة عن عزمه، فانطلق بخطًى واثقة نحوها. وما إن بلغ كوخها المتهالك وعرض عليها ما كان يشغل باله ويؤرق مضجعه من أمر الغول، حتى رمقته بنظرةٍ عميقة، وقالت بصوتٍ يشوبه الغموض: “ليس هناك من سبيل للخلاص من هذا الغول إلا سرٌ دفين، لا يعلمه إلا كائن واحد في هذا الوجود، ألا وهي حورية البحر التي تطفو من أعماق النهر لتغني له أغنيتها كل ليلة.”

وكان نيكو، يعلم تمام العلم أن الغول لا يغفل عن نهره، ولا يغيب عنه ما يدور حوله. ففكر مليًا، وقرر أن يحيك لنفسه ثوبًا براقًا من الفضة واللون الأخضر، ليظهر كسمكة ضخمة، عسى أن يخفيه ذلك عن عين الغول اليقظة. ومن ثم، عزم على الغوص في أعماق النهر، علّه يبلغ مأوى الحورية ويستخرج منها السر الذي يحرر قومه من سطوة الغول.

وفي ليلةٍ حالكة، بعد أن فرغت الحورية من أغنيتها المعتادة، وحل الهدوء على ضفاف النهر، تسلل نيكو من خلف صخرة كانت تُخفيه عن الأنظار. ارتدى الفتى ثوبه الأخضر الفضي الذي تلألأ تحت ضوء القمر، ثم اندفع إلى الماء بخفة وسرعة، متابعًا الحورية التي رآها تغوص في أعماق النهر. استمر في النزول، وتكاثفت الظلمات حوله، حتى وصل إلى قاع النهر، حيث كان الصمت ثقيلًا والبرد ينساب حتى عظامه. وهناك، إذ بالحورية تلتفت إليه، وقد شعرت بحضوره، فتوقف نيكو فجأة، وارتعد قلبه خوفًا من انكشاف أمره..

لم ترَ الحورية قط سمكة بهذا البهاء وذلك الحجم، فقد كان ثوب الفضة الذي يلتف حول نيكو يلمع تحت ضوء القمر كما تلمع الجواهر في قاع البحار. ولما أضاءته أشعة الليل، انتابها شعورٌ بالغيرة والدهشة معًا، إذ لم يسبق لها أن رأت مخلوقًا يتلألأ بهذا السحر، فاقتربت منه وهي تسبح برشاقة، وقالت بنبرة تتطاير منها الرغبة: “أيتها السمكة الجميلة، من أين لك بهذا اللمعان الفريد؟ لا بد لي أن أحظى بلمعان مثله في الحال، إذ لا يليق بي إلا ما يفوق كل مخلوق بريقًا.”

فأجابها نيكو بعد أن أبان عن نفسه وهو يحاول أن يخفي ارتباكه بغطاء الفصاحة: “أيتها الحورية الفاتنة، سأخبرك بسر هذا اللمعان البديع بكل سرور، بل سأجلب لك ثوبًا يماثله جمالًا ولمعانًا، لكن بشرط. إن أخبرتني كيف يتسنى لأهل البلدة أن يتخلصوا من ذلك الغول الذي تغنين له كل ليلة، فسأفي لك بوعدي وألبسك ثوبًا يتجاوز كل خيال.”

حين سمعت الحورية كلمات نيكو، تبدلت ملامح وجهها، فانقلبت من البهجة البريئة إلى حزنٍ عميق، وكأن كلامه قد أيقظ في قلبها سرًّا دفينًا ثقيلًا على نفسها. فقالت بصوتٍ كسيح يخالطه الأسى: ” أنا أعرف من أنت. أنت نيكو أليس كذلك؟ المعذرة منك. إنّ ما تطلبه يفوق طاقتي، فإن كنت على علم بالسرُّ الذي يخلصك أنت وقومك من هذا الغول الرهيب، لا أزال عاجزة عن مطلبك، لأن ما تطلبه ليس بيدي.”

فأحنى نيكو رأسه قليلاً وهو يحدق في الحورية بعيونٍ متوسلة، ثم قال بنبرة حانية: “إن كنت لا تستطيعين أن تقدّمي لي يد العون، فدليني على السبيل الذي به ينجو أهل بلدتي من هذا البلاء، علّهم يجدون من ينقذهم.”

تنهدت الحورية بعمق، كمن يخرج سره بعد طول كتمان، وقالت بصوتٍ منخفض: “اعلم يا نيكو أن الخلاص من هذا الغول مرتبط بشرط غريب، وهو أن يأتي رجلٌ من بني البشر، فيسكن هذا النهر ويقبل أن يتزوجني. حينئذٍ، ينكشف لك ما تبقى من السر. لكنك تدرك الآن حجم المستحيل في الأمر، فمن ذا الذي يرضى بالزواج من حوريةٍ ويعيش في قاع النهر المظلم إلى الأبد؟”

لكن نيكو، وقد أُسِرَ بجمال تلك الحورية البديعة، أطلق العنان لأحاسيسه، فقال: “أريني منزلك، أيتها الحسناء، فلعلي أكون سبب خلاصك من هذا البلاء.”

فأخذت الحورية بيده، ونزلت به إلى قاع النهر، حيث رماله البيضاء تتلألأ كالحلي، وهناك كان منزلها البلوري يتلألأ كالنجوم في السماء الصافية. فقال نيكو مفعمًا بالشغف: “أيتها الحورية، إني أحبك، ها أنا ذا قد جئتك عاشقًا من بني البشر، فهل تقبلين أن تكوني زوجتي؟”

وما إن نطق بهذه الكلمات، حتى نزع عن جسده الثوب الأخضر اللامع، وظهر بجسده كاملا، وأقبل نحو محبوبته. فاحمرّ وجه الحورية خجلا، وكأن الورد تفتح على وجنتيها، وبدأت تتلعثم بخجل، قائلة: “لم أكن أعلم أنك بهذا الجمال.”

قال نيكو ضاحكًا وقد غلبه الشغف: “بالطبع لم تعلمي. فأين أجد والدك، أيتها الحسناء الرقيقة؟”

عندئذٍ، صَفَقَت الحورية بيديها الصغيرتين، فتوافدت الأسماك الفضية الصغيرة من تحت الصخور، تتراقص حولها كخدمٍ مخلصين يلبون نداء سيدتهم.

فأمرت الحورية الأسماك قائلة: “أسرعوا وأخبروا الدولفين بأن يذهب بحثًا عن والدنا نبتون.”

وما هي إلا لحظات حتى تموجت المياه، وظهر لنيكو فرسين بحريين يجران عربةً فاخرةً، وعلى متنها رجلٌ عظيم الشأن، يحمل في يده مذراةً بثلاثة رؤوس.

فقالت الحورية بفخر: “هذا هو والدنا نبتون. اطلب منه ما تشاء.”

فالتفت نبتون إلى نيكو، قائلاً بصوتٍ عميقٍ يجلجل كالرعد: “أيها الشاب البشري، ما الذي ترغب في طلبه مني انا العظيم نبتون ولا عظيم في هذا النهر سواي؟”

تردد نيكو لوهلة أمام هيبة نبتون، فقد كان عظيم الخلقة وصارم النظرات، ولكنه استجمع الشجاعة حين رأى الحورية تسبح نحوه، وتضع رأسها برفقٍ على كتفه. فقال بجرأة: “أريد أن أتزوج ابنتك، وأعيش في قاع النهر، حيث أستطيع أن أنال قربها.”

ابتسم نبتون، قائلاً: “لقد انكسر السحر أخيرًا عنكِ، يا ابنتي، وإني لمسرورٌ ذلك. لو كان بوسعي مساعدتكِ سابقًا لفعلت، ولكن ليس لطاقتي سلطان على سطوة اللعنات السحرية. والآن، لقد أصبحتِ زوجةً لهذا الشاب البشري، وإني لمعلنكما زوجين.”

ثم التفت إلى نيكو، قائلاً بلهجةٍ جادة: “إنها لك، أيها الشاب. والآن، دعنا نرى كيف يمكننا التخلص من ذاك الغول المزعج الذي أقام على ضفاف النهر. لقد أزعجني طويلاً، وقد آن آوان رحيله إلى الأبد.”

فقالت الحورية مبتسمةً، وقد غمرها الفرح: “والآن، بعد أن تزوجنا، أستطيع أن أخبرك بشيءٍ قد تجهله. لست حوريةً كما كنت تظن، بل أنا ابنة ملكٍ عظيم. لقد لُعنت وتحولت إلى حوريةٍ لأغني للغول، وذلك لأن والدي لم يدعُ ذلك الغول إلى وليمةٍ أقامها في قصره.”

وأكملت قائلة بنبرةٍ مليئة بالعزم: “لقد ألقى الغول عليَّ تعويذةً لا تُفك إلا إذا جاء إنسانٌ إلى قاع النهر وطلب الزواج مني، وهو ما اعتبره مستحيلًا. أما الآن، وقد جاء دوري لأردَّ الصاع صاعين، فسأطلب من والدنا نبتون أن يسمح لي بأن أستعين بالساحرة العجوز لتحويل الغول إلى صخرةٍ ضخمة في وسط النهر، حيث تفتر قواه ولا يغدو قادرًا على إزعاج أحد.”

قال الملك نبتون، في لحظة من الفخر والحب: “أحسنتِ، يا ابنتي العزيزة، فإنَّ تلك الصخرة الضخمة ستُضفي على نهرنا رونقًا وجمالًا، وعندما أستقر هنا، ستجد خيولي البحرية موطنًا للعب، ودلافيني مقعدًا مريحًا تستريح عليه.”

فأجابت الحورية، وقد غلبها شعور من القلق الجميل: “وداعًا، أيها الأب نبتون، فلن أعود إلى هذا الشكل بعد هذه الليلة، إذ أنني متى ما لامست اليابسة، سأستعيد هيئتي الإنسانية، وأتحرر من لعنة الغول.”

ردّ نبتون، وقد شعّ في عينيه بريق الحماسة: “سآخذكما إلى الشاطئ، اركبا معي سويًا.” فما لبثت خيول البحر أن انطلقت، كالنجوم تتلألأ في السماء، إلى قمة النهر، حيث جرى ماؤه كأنه يزهر بفرح، ثم اقتربت العربة الفاخرة من ضفة النهر القريبة من الغابة، لتكون المحطة القادمة في هذه الرحلة العجيبة.

وعند وصولهم، وقفت الحورية متألقةً بجمالها، مشبعةً بالأمل، وعازمةً على مواجهة مصيرها الجديد، بينما كانت خيول البحر تتراقص حولها كأنها تودعها قبل أن تغادر إلى عالمها جديد.

فقالت الأميرة، وقد اختفى نبتون من المشهد: “يجب علينا أن نسرع إلى الساحرة قبل بزوغ الفجر، لئلا نمنح الغول فرصة أخرى ليفتك بأهل البلدة.”

ولما أبصرت الساحرة العجوز الأميرة، انطلقت في قهقهاتٍ مدوية، قائلةً: “ها ها! ها هو الغول في قبضتي. اتركيه لي، يا عزيزتي، فسأغيّره إلى الشكل الذي تشائين.”

فأخبرتها الأميرة برغبتها الجازمة في تحويله إلى صخرةٍ ضخمة ترتفع في وسط النهر. فأجابت الساحرة بحماسة: “تعالوا معي، سترون ذلك يتحقق.”

ما لبثت أن ظهرت مكنسة عظيمة من خلف الكهف، فركبت عليها الساحرة والأميرة ونيكو، وطارت بهم نحو المكان الذي كان الغول يتربص فيه بجوار النهر، كأنه يترقب فريسته.

وعندما اقتربوا بما يكفي، انحنت الساحرة وضربت الغول بعصاها المعوجة، كأنها تقول بلهجةٍ حازمة: “أيها الغول! لقد حان وقت حسابك، فاستعد لتذوق مرارة عاقبتك.” ثم تابعت:

تحت المياه، حيثُ تجري الأنهار

كن صخرة، يا غول، في الليل والنهار

تحتَ جُنحِ الأمواجِ، حيثُ لا يُسمعُ أنين

في عمقِ النهر، ستبقى بلا عزاءٍ أو حنين

دوّى الرعد في فضاء الغابة، فكأن الأرض قد اهتزت تحت وطأة عظمته، بينما تردد صدى ذلك الصوت الرهيب في أعماق الأرجاء، محدثًا دويًا عظيمًا كأنه نذيرٌ بقدوم أحداث جسام.

وما إن انقشع ضباب الماء كحجابٍ عن وجهٍ مُضيء، حتى بانت للأميرة ونيكو صخرةٌ سوداء ضخمة تتوسط النهر، فيها تجسّد الخطر والقدرة معًا. وما لبثوا أن شعروا بأنهم يطيرون مع الساحرة مرة أخرى.

فقالت الساحرة بصوتٍ ينساب كالنغم:

“ها هي دارك، أيتها الأميرة. هناك، سينتظرك الكل أنت وزوجك الحبيب، فقد أبلغتهم بنجاتك، وهاهم يُعَدّون وليمةً كبرى احتفالاً بزواجكما، ليكون يوم فرحٍ لا يُنسى.”

لكن قبل أن يُسدي نيكو وعروسه شكرهما الساحرة، كانت قد ارتفعت في الأفق كنجمة ساطعة.

وفي قصرهما المنيف، استقبل الملك والملكة عودة ابنتهما الميمونة بأحضانٍ تحكي أسمى معاني الفرح وتفيض بالعاطفة، فكانت الأجواء حولهم كالنسيم العليل في ربيعٍ مزهر. ولقد أكرموا نيكو إكرامًا عجيبًا، حتى نسى حنينه إلى وطنه تماما، فلم يعد له فيه ذكرٌ يذكر، فقد غمرته محبةٌ تفوق كل وصف.

وما كان لذلك الأثر من عظيم الأثر في قلب نيكو، إذ كان يتيمًا حملته الأقدار إلى هنالك فلم يمكن له من عائلة أو إخوة. وبمرور الأيام، انتشر الفرح كالنور في أرجاء البلدة، وقد علم سكانها بأن الغول قد زال عنهم، وما عُني أحدٌ بالذي أسهم في زواله.

وعاش نيكو والأميرة حياةً تتفتح كالأزهار في بستانٍ عاطر، متمتعين بليالي الأنس وأيام الهناء. وفي يومٍ من الأيام، أعلنا عن تأسيس مملكةٍ تجمع شملَهما في بلاد العز والشموخ، حيث تفتحت أزهار الأفراح في قلوب الأحبة، وارتسمت أسماؤهم في سجل الزمن كأنها دررٌ لا تنطفئ، تظل تتلألأ في سماء المجد والخلود.


Downloads