في أعماق المحيطات السبعة، حيث تتراقص الأمواج على إيقاع أزلي وتتناغم الأصداف مع همس الرياح، كان اختيار حورية البحر لتكون ملكة المحيط من أهم الأحداث التي شهدتها مملكة الأسماك منذ القدم.
منذ سنين طويلة، تمتد إلى ما وراء ذاكرة أقدم الأسماك، بل حتى إلى ما وراء ذكريات حوت عجوز لم يعد قادراً على السباحة، كان يوجد رجل ذو لحية طويلة وشعر متموج، يحمل رمحاً ثلاثي الشعب ويُعرف باسم نبتون، هو ملك البحر وحاكمه المطلق.
لكن مع تقدمه في العمر، ومع تزايد أعداد السفن وتكاثر الأسماك بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، قرر أن الوقت قد حان ليتخلى عن حكم البحار إلى الأبد ويعين خلفاً له على العرش.
فاستدعى جميع سكان البحر، في مشهد مهيب، حيث تجمعت خلائق البحر من كل حدب وصوب. الأسماك بألوانها الزاهية، والحيتان العملاقة، والدلافين الراقصة، والأخطبوطات الحكيمة، كلهم أتوا ليسمعوا قرار ملكهم وليدلوا بآرائهم في اختيار الحاكم الجديد.
لم يكن هناك جدال يذكر حول من سيخلف نبتون، فكل من رأى حورية البحر ولو لمرة واحدة، كان قد وقع تحت سحر جمالها الأخاذ. وحتى أولئك الذين لم يحالفهم الحظ برؤيتها، كانوا قد سمعوا أوصافًا تفوق الخيال عن حسنها وطيبة قلبها.
كانت الحورية تتمتع بشعر ذهبي يتألق تحت أشعة الشمس المتسللة عبر سطح الماء، وعندما تطلقه حرًا في الماء، كان يبدو كسيل من الذهب السائل يتموج مع التيارات. شفتاها كانتا بلون المرجان الأحمر النادر، حتى أن أجمل الشعاب المرجانية كانت تخجل من جمالها. أما بشرتها، فكانت ناعمة وبيضاء كالسحاب في يوم مشمس، صقلتها أمواج المحيط على مر العصور حتى أصبحت في غاية النعومة والنقاء.
لكن جمالها الخارجي لم يكن سوى انعكاس لروحها النبيلة وقلبها الرحيم. ففي أشد الليالي ظلمة، وأعتى العواصف هولًا، كان صوتها العذب يرتفع محذرًا السفن من الصخور الخادعة والشعاب المميتة. كانت ترشد البحارة الضالين بصوتها الملائكي، ساعية جاهدة لإبقائهم في مسار آمن وسط غضب البحر الهائج.
وهكذا، عندما سأل الملك نبتون عمن يرون جديرًا بحمل تاج البحار، ارتفعت أصوات المخلوقات البحرية كموجة عاتية، متفقة بالإجماع على اختيار الحورية الجميلة لتكون ملكتهم الجديدة.
فور إعلان القرار، بدأت الاستعدادات لحفل التتويج الملكي بحماس منقطع النظير. في أعمق وأنقى بقعة في قاع البحر، حيث الرمال في أشد درجات بياضها ونقائها، تم اختيار موقع للعرش الملكي. وعلى الفور، بدأت آلاف الكائنات البحرية الدقيقة في العمل بجد ونشاط لبناء أروع عرش مرجاني شهدته البحار.
كان العرش تحفة فنية بحق، مزيجًا من المرجان الوردي الناعم والأحجار الكريمة المتلألئة التي جمعتها الأسماك من حطام السفن الغارقة. الذراعان كانتا مرصعتين بالذهب الخالص، استخرجته الأسماك بعناية من خزائن سفينة قراصنة رقدت في قاع البحر لقرون.
ولمرافقة الملكة الجديدة في موكبها الملكي المهيب، تمّ انتقاء مائة سمكة تتلألأ حراشفها الذهبية بكل روعة، كأنها نجوم سقطت من السماء لتسبح في البحر. ومائة أخرى تتباهى بحراشف فضية براقة، تعكس ألوان قوس قزح كلما لمستها أشعة الشمس المتسللة عبر الماء. هؤلاء السمكات الفاتنات كنّ مكلفات بالوقوف في حراسة شرف حول العرش المهيب.
لحماية الملكة، تم تعيين سمكتي سيف ضخمتين، عيونهما يقظة وسيوفهما حادة، لتقوما بحراستها ليل نهار. وللتنقل في أرجاء مملكتها الشاسعة، تم اختيار عشرين دولفينًا، من أسرع وأرشق ما في البحر، لجر عربتها الملكية المصنوعة من الصدف اللؤلؤي النادر.
ومع كل هذه الاستعدادات المبهرة والتحضيرات الفخمة، كان من المتوقع أن تغمر السعادة قلب الحورية الجميلة. إلا أن شيئًا واحدًا كان يشغل بالها ويقض مضجعها: ما الذي سترتديه في يوم تتويجها ملكة للبحار السبعة؟
وقفت أسماك المقص على أهبة الاستعداد، أسنانها الحادة تلمع في انتظار أن تقص الفستان الملكي. وبجوارها، اصطفت أسماك الإبرة، إبرها الدقيقة جاهزة لحياكة أجمل ثوب عرفته الممالك المائية. لكن الحورية الجميلة وقعت في حيرة من أمرها، فلم تجد بين الخيارات المتاحة ما يليق بمقامها الجديد كملكة للبحار. أحضروا لها أرق وأجمل الأعشاب البحرية، ناعمة كحرير الشرق وشفافة كأجمل الدانتيل، لكنها لم تجد في ألوانها ما يرضي ذوقها الرفيع.
ثم جلبوا لها أعشابًا طويلة خضراء، ونسجوا منها بمهارة فائقة قماش بديع التكوين، يتموج مع حركة الماء كأنه حي، لكن هذا القماش أيضًا لم ينل استحسانها.
كادت الحورية أن تعلن في لحظة يأس أنه لن يكون هناك حفل تتويج علني، عندما ألهمتها فكرة ذكية. أعلنت للجميع أن السمكة التي تنجح في إحضار مادة ترضى عنها لصنع فستانها الملكي، ستحظى بشرف لا يضاهى: وهو الجلوس بجانبها على العرش ومساعدتها في حكم البحار الشاسعة.
وهكذا، انطلقت مسابقة غير مسبوقة في تاريخ الممالك المائية. سعت كل سمكة، من أصغرها إلى أكبرها، في رحلة بحث محمومة عن المادة الأكثر روعة وفرادة لصنع فستان يليق بجمال ملكتهم الجديدة وهيبة منصبها.
من محيط إلى آخر، سبحت الأسماك بأقصى سرعتها، باحثة عما تأمل أن يرضي الملكة الجديدة. في غمرة حماسهم للفوز بشرف الجلوس بجانبها على العرش، تركوا حورية البحر وحيدة تمامًا.
وفي يوم من الأيام، بينما كانت جميع الأسماك بعيدة في رحلة بحثها، سمعت الحورية صوتًا خافتًا للغاية يأتي من صخرة بجوارها مباشرة. التفتت حولها لتجد محارة صغيرة، وبينما هي تنظر إليها، سمعتها تتحدث مرة أخرى.
قالت المحارة بصوت رقيق: “يا صاحبة الجلالة، لا أستطيع السباحة والبحث عن الثوب الرائع الذي تريدينه، لكن ربما يمكنني أن أدلك على مكان وجوده.”
سألت حورية البحر بدهشة: “وكيف لك أن تعرفي؟ أنت لم تتحركي من على هذه الصخرة منذ ولادتك.”
أجابت المحارة بتواضع: “فعلا، ما قلتيه صحيح تماما، يا مولاتي، ومع ذلك، قد أتمكن من مساعدتك.”
سألت الحورية بلهفة، وقد أثار فضولها أن تحصل على المعرفة حتى من محارة صغيرة: “أين هذه المادة الجميلة التي تعرفينها؟”
قالت المحارة: “هنا في صدفتي”، وبينما كانت تتحدث، فتحت صدفتها على أقصى اتساعها، فرأت حورية البحر الألوان الرائعة للؤلؤ الذي يبطن الصدفة من الداخل.
صاحت الحورية بإعجاب: “لا شيء يمكن أن يكون أجمل من هذا! كنت أبحث عن شيء وقد كان طوال الوقت بجانبي مباشرة.”
عندما سمعت المحارات الأخرى إعجاب حورية البحر بجمال اللؤلؤة المتلألئة، فتحت أصدافها ببطء وخجل، كأنما تكشف عن سر مخبوء. ومن كل محارة، جمعت الحورية جزءًا من بطانة اللؤلؤ الساحرة التي كانت تحتفظ ببريق المحيط في طياتها. استخدمت الحورية عصارة مستخرجة من أعشاب البحر، ولصقت بهذه العصارة الأجزاء المتناثرة، فكانت كمن ينسج ثوبًا من ضوء القمر، ثوبًا بديعًا صُنع من اللآلئ.
وعندما عادت الأسماك الذهبية والفضية، بعدما طافت البحار بحثًا عن شيء يفوق جمال ما سبق وقدمنه، فوجئن بأن الحورية قد ارتدت بالفعل ثوبًا براقًا يفوق في روعته كل ما جلبنه. كان الثوب يلمع بألوان الطيف، يعكس ضوء الشمس تحت المياه بطريقة تأخذ الألباب.
وعندما سألوا الحورية عن سر هذا الثوب البديع، اكتفت بابتسامة غامضة ولم تفصح عن مصدره. ولكن في يوم تتويجها ملكة على جميع الكائنات البحرية، كانت هناك محارة صغيرة مستلقية بهدوء على ذراع العرش الملكي. حاولت الأسماك الذهبية والفضية إزاحتها، لكن الحورية أمرتهن أن يتركنها مكانها، وكأن تلك المحارة كانت تحمل أهمية لم يعرفها أحد.
وإلى يوم الناس هذا، لم تعرف الأسماك سبب إصرار الحورية على بقاء تلك المحارة الصغيرة بجانبها. فلم تفتح المحارات أصدافها مرة أخرى، وبقي سر الثوب الجميل الذي ارتدته ملكتهن حبيسًا داخل تلك الأصداف الصلبة والقاسية، التي كانت تخفي في أعماقها جمالًا يفوق الخيال، على الرغم من أنها لم تكن قادرة على السباحة مثل باقي مخلوقات البحر.