قال الثعلب رينارد في ليلة من الليالي، وهو عائدٌ خالي الوفاض من المزارع التي تحيط بجزء من الغابة حيث يعيش: “يجب القيام بشيء ما، ويجب أن أسرع في ذلك وإلا..!”
ثم تابع قوله: “المزارعون من حولنا، على مدّ النظر، قد نصبوا الشراك والفخاخ، يترقبوننا نحن أهل الغابة، وإن لم أجد لنفسي مخرجًا وأهتدي لخطة، فلن يكون مصيري إلا الهلاك جوعًا؛ وهذا أمرٌ لا ريبة فيه.”
لمّا وصل رينارد إلى منزله، لم يسارع إلى الفراش كعادته. بل بادر أولًا إلى تحريك الجمرات في الموقد حتى اشتعلت النيران بوهجٍ أكثر قوة، ثم وضع غلاية الشاي على النار، وقام بارتداء نعاله القديمة التي اعتاد السير بها داخل البيت، ثم ألقى على كتفيه رداء الحمام المريح، وملأ غليونه بالتبغ.
وما إن غلى الماء في الغلاية، حتى أعدّ لنفسه كوبًا من شاي الزنجبيل الساخن، فشربه واستعاد دفء جسده. وبعدها أشعل غليونه وجلس على كرسيه الهزاز قبالة النار، واضعًا قدميه على الموقد، وأخذ يدخن ببطء ويتأرجح في مقعده، غارقًا في التفكير، وقد أثبت بذلك أنه قادر على الجمع بين التأمل والتدخين والتأرجح في آنٍ واحد.
حين اقتربت الشمس من بزوغها، توقف رينارد عن التفكير والتأرجح. كان غليونه قد انطفأ، لكنه أبقاه بين شفتيه، إذ كان يرى أن التفكير يصبح أكثر وضوحًا وهو يضعه في فمه ولو لم يكن مشتعلا، كما اعتاد أن يقول.
وفجأة، صرخ بحماس: “وجدتها!” ثم صفع على ركبته وقفز باندفاعٍ شديد، حتى إن الكرسي الهزاز قد انقلب خلفه، ولكنه لم يأبه له ولم يتوقف لالتقاطه، فقد كان غارقًا في نشوة اكتشافه لخطته الجديدة.
توجه مباشرة إلى مخزنه، الذي لم يكن يختلف كثيرًا عن مخزن العجوز هوبارد الفارغ، وعثر فيه على قشرة خبز لم يلحظها في اليوم السابق، ثم سكب عليها ماءً ساخنًا ورشّ قليلًا من الملح، ثم تناولها كوجبة إفطار بسيطة، والحماس آخذه لتنفيذ خطته التي أشغلت فكره.
لم يطق رينارد الانتظار حتى تشرق الشمس، فأسرع في الاتصال بأهل الغابة. بدأ بزيارة بيت الأبوسوم، ثم انتقل إلى بيت الراكون، وبعده بيت الأرنب الصغير، ومن ثم بيت السنجاب، حتى بلغ بيت الدبّ.
وطلب من كلّ واحد منهم أن يبقى في منزله حتى يحين وقت الظهيرة، إذ لديه إعلان في غاية الأهمية ليبلغهم به. وقد كان الجميع في ذلك الصباح على غير عادتهم، متحمسين ومتلهفين لسماع ما سيبوح به رينارد. وعندما دقت الساعة، اجتمعوا جميعًا أمام منزله، وجلسوا على الأرض بترقب، ينتظرون ظهوره.
خرج رينارد بوجه تغشاه الجدية، وجلس على عتبات الباب بخطوات متأنية. تأمل الجمع بعين ثاقبة، ثم قال بصوت جاد وبلهجة ملؤها الوقار: “أيها الأحباب والأهل والخلّان، لقد دعوتكم اليوم إلى هذا الجمع لأمر جلل وخطب عظيم لا يحتمل الإمهال ولا يقبل التسويف. إنّما نحن على أبواب مرحلة شديدة الخطورة، ولها من الأهمية بمكان ما لا يخفى عليكم، وحيث أنني أعلم يقينًا بتمام إدراككم لما يعنيه ذلك، فسأختصر في البيان. فلنسرع إلى المقصد إذن.”
أراد كل واحد منهم أن يُظهر للآخرين حكمته وفطنته في تلك اللحظة، فأجمعوا جميعًا على عدم الالتفات إلى كلماته الصعبة وخاصة معنى قوله ” لأمر جلل “، رغما عن أنهم لم يملكوا أدنى فكرة عمّا تعنيه هذه الكلمتان.
قال رينارد: “لقد اقترفنا نحن، أهل الغابة، في سالف الأيام أخطاء فادحة، إذ امتدت أيدينا إلى خضروات المزارعين ظلماً وعدواناً.”
في تلك اللحظة، قفز الأرنب الصغير والسيد والسنجاب ومرموط الجبل، وخاضوا وجابوا احتجاجًا، لكن رينارد رفع يده إشارةً لهم بالتوقف وقال بحزم: “انتظروا! اسمعوا مني!” ثم أضاف: “نعم، لقد سرقنا دواجن المزارع، وخنازيرهم، بل كنا نسرق حتى الخرفان السمان بين الفينة والأخرى.”
أعرب الدب حينئذٍ قائلاً: “لم أذُق طعم الخرفان منذ زمن سحيق، لكنني أود ذلك؛ ولا أشعر بالحرج في الإفصاح عن هذه الرغبة.”
رد عليه رينارد بحزم: “أيها الرفاق، أرجو منكم الصمت والإصغاء. كما نبّهتكم في مستهل الحديث، فإنّ ما نحن بصدده هو أمر جلل.”
همس مرموط الجبل إلى الأرنب: ” ها هو يكرر هذه الكلمة. إن شأن الحصول على الغذاء لهو أيضًا من الأمور الجليلة.” ولم يعلم حينها الأرنب أن الأمر الجلل لا علاقة له بالأمر الجليل.
ولكن على كل، استرسل رينارد في حديثه وقال: “لا يخفى على عاقلٍ أنه سيكون تحديًا جللًا لنا جميعًا، نحن أهل الغاب، في هذه الأوقات العصيبة، لا سيما على الراكون والأبسوم والدب، وأنا منهم. بيد أنني أرى أنّه قد آن الأوان لوضع حدّ لعاداتنا القديمة، تلك التي تبيّن لي فظاعتها وشرورها. فالعادات السيئة أشبه بالأعشاب الضارة، تتسلل إلى نفوسنا خفيةً وتفسد طيب العيش وصفاء الحياة.”
استقام الجميع في جلستهم، وأصغوا بلهفة، وقد تجلّى في عيونهم شغف الاستكشاف، وأخذوا يتساءلون عما سيحمله القدر من مفاجآت، إذ كان كلّ كائن في الغابة على درايةٍ تامة بشهية رينارد الجياشة نحو الطعام بكل أصنافه.
فقال رينارد، وهو يرفع صوته بحماسة: “نعم، علينا أن نتخلّى عن سرقة طعام المزارعين، فإنّ في ذلك من الظلم والباطل ما لا يخفى، وما كان من الباطل فهو مذموم، وبارتكاب الباطل يُعزى المرء إلى الشر وما نحن بأشرار ولا نحن من سواء الخلق. وإني لأؤمن أن لا أحد منا يرغب في أن يُقرن اسمه بالشر والرذيلة، أيها الأصدقاء الأعزاء، فنحن أرفع من ذلك وأشرف.”
أنصت الجميع كأنما على رؤوسهم الطير، ثم قالوا بصوت واحد: “حقا لسنا بأشرار ولا نرضى الشر لأنفسنا.”
فاستكمل رينارد قوله: “إذن، يتوجّب علينا أن نضع حدًا لتسلّلنا إلى المزارع المحيطة، وأن نعتمد في معيشتنا على خيرات غابتنا وما تجود به علينا الطبيعة من دون تعدٍّ على حقوق باقي الخلائق. فإنّني على يقين أننا سنجد في ذلك لذّة الرضا وسعادة النفس التي لا تُضاهى، وسنكون حينها في حال أفضل.”
ثم تابع، وقد غمرته نشوة من الأمل: “والآن، من منكم مستعد أن يظل أسيرًا للشر؟”
بالطبع، لم يرفع أحد يده أو يقف، فابتسم واثقًا من الجواب: “كنت أعلم أن جميع أصدقائي وجيراني يطمحون للخير، كما أطمع أنا، ولكن ربما لم يجرؤ أحد على أن يُصارحهم بذلك. فلنتهيأ إذن لبداية جديدة، ملؤها الفضائل والمكارم، لنكون قدوة يحتذى بها في هذه الغابة.”
ثم تابع قائلًا: “من الآن فصاعدًا، يجب علينا جميعًا أن نقتات على الجذور والأوراق والمكسرات وأشياء أخرى، وألا نهاجم أبدًا أيّا من المزارع. أهذا متفق عليه؟”
قال الجميع: “وهو كذلك.” لكن السعادة لم تظهر إلا على رينارد، وقد لاحظ ذلك مرموط الجبل وأخبر بذلك الأرنب الصغير متعجبا.
أثناء عودتهما على الطريق إلى المنزل، أعرب المرموط عن عزيمته التأكد من أن رينارد يلتزم بجزئه من الاتفاق، لأنه لم يثق به أبدًا، ولأنه لأمر عجيب أن تأتي لعائلة الثعالب أفكار مفاجئة عن الطيبة والخير ولم يعرف عنهم غير الدهاء والمكر.
كان مرموط الجبل يراقب الأفق بعينين مملوءتين بالفضول، ولكنه لم يرَ رينارد يخرج من الغابة ولو لمرة واحدة. فبدأ يساوره الشك في أنه ربما أساء إلى عائلة الثعالب، حتى رآه في إحدى الليالي يتسلل خارج البيت، حاملاً حقيبة على كتفه.
فقال مرموط الجبل في نفسه: “آه! ها نحن ذا، أيها الثعلب رينارد، كم أنت حسن السيرة حقًا!”
وشك في أنه متجه إلى المزارع لجمع بعض الدجاج أو البط، وكان محقًا في ظنونه، إذ تسلل رينارد من بين أشجار الغابة وعبر التلال، وعندما عاد، كانت حقيبته قد امتلأت بالطعام. فقد كان قد أعدّ خطة محكمة ليبعد جميع الحيوانات عن المزرعة، حتى يظن المزارعون أنهم قد أفلحوا في إبعادها، فيقلِّلون الحراسة ويتوقفوا عن نصب الفخاخ. وبذلك يصبح رينارد هو المتحكم في زمام الأمور في المزرعة.
لكن رينارد لم يكن في حسبانه ذاك المرموط الصغير الذي يقطن الجبل؛ فقد كان يراه دوماً مخلوقاً وديعاً لا يؤبه له، ولا يتجاوز حدود البساطة في فكره، ولا يتمتع بفطنة تُذكر. بيد أن الأقدار حملت له درساً جديداً لم يكن في الحسبان. فما إن غادر رينارد الغابة، حتى انطلق المرموط بنشاط لا يُخفى، متنقلاً بين منازل أهل الغابة، ينبئهم بما رأته عيناه. وعندما عاد رينارد إلى عرينه، وقد أثقل ظهره كيس ملآن بما جمعه، فوجئ بهم جميعاً وقد تحفزوا لاستقباله. كانوا مختبئين بين الأشجار والآكام، حتى إذا ما اجتمعوا عليه قفزوا في آن واحد، فخال أنّ جميع كائنات الأرض قد تآمرت ضده.
وهتفوا جميعاً بصوت واحد: “مساء الخير يا رينارد، لقد تأخرت كثيراً لتنضم إلى نادينا الطيب. ترى، ماذا تحمل في كيسك هذا؟”
صاحت الدجاجات في الكيس: “كوك، كوك!” وتلتها البطة بقولها: “باق، باق!”، فلم يكن من حاجة إلى رد من رينارد، فقد تبين لهم جميعاً ما يخبئه في كيسه دون أن ينطق بكلمة.
عندئذ تقدم مرموط الجبل قائلاً بصوت جاد وحاسم: “لن ندعه يبقى بيننا في نادينا الطيب. إنه شرير بما يحمله من تصور معوج عن الخطأ والصواب، ولم يعد يستحق أن يكون عضواً بيننا.”
ظهرت على وجه رينارد علامات الحرج والانزعاج، لكنه سرعان ما استعاد رباطة جأشه، وقال بنبرة هادئة: “أيها الأصدقاء والجيران الأعزاء، إنكم لتظلمونني بهذا الاتهام الجائر. لقد أعددت لكم هذه الليلة مفاجأة بسيطة، مدركًا مدى ما حرمتم أنفسكم منه بانضمامكم إلى هذا النادي. ولأنني كنت المؤسس الأول لهذا النادي، رغبت في مكافأتكم على إخلاصكم وتفانيكم كأعضاء متميزين فيه. ولكن، وكما يحدث أحيانًا مع النوايا الطيبة، تمّ إساءة فهم قصدي. لذا، أرجو أن تمنحوني الفرصة لتوضيح ما أردت قوله، إن سمح لي مرموط الجبل بذلك طبعا.”
قال المرموط وهو يبتسم ابتسامة ماكرة، كاشفاً عن أسنان القوارض الأمامية الطويلة خاصته: “تفضل إذاً، واشرح لنا مرادك، إن كنت ترى أن بوسعك تبرير أفعالك هذه الليلة وتظل عضواً محترماً في نادينا، فنحن مستعدون للاستماع.”
ردّ عليه رينارد بثقة: “بكل تأكيد، أستطيع أن أوضح الأمر بطريقة تُرضي جميع الأعضاء.”
ثم أردف قائلاً: “في هذا الكيس الذي ترونه، أحمل بطتين سمينتين، وخمس دجاجات ممتلئات، وخمس إوزّات، بالإضافة إلى بعض اللفت والكرنب، بل وحتى خنزير صغير لصديقنا الدب. وقد حملت هذا العبء على ظهري، مجتازاً التلال والوديان، لأقيم لكم حفلة فاخرة غداً، احتفالاً بمرور شهر على تأسيس نادينا الطيب.”
فلما فرغ رينارد من حديثه، التفتت الأنظار إلى مرموط الجبل، غير أن الأخير لم يتبدل حاله، بل ظل يبتسم ابتسامةً تخفي وراءها دهاءً مكيناً، وقد أبان عن أسنانه الأمامية الطويلة، وقال بلهجة هادئة يكسوها تهكم لطيف: “حقاً إنها لحفلة مفاجئة يا رينارد، بيد أني أعتقد، لولا هذه المفاجأة التي ظهرت أمامك فجأة لما كان هنالك حفلة على الإطلاق، أو على الأقل، لن تكون لنا نحن الأعضاء.”
ثم أردف: “لكن، إن كان الجميع راض، فلا أرى بأساً في أن أبقي على وجودك بيننا، ولا أطالب بإخراجك من النادي. بيد أني أرغب في الاستفهام عن أمرٍ شغلني: حينما أسست هذا النادي، ألقيت خطاباً قلت فيه أنّ هذا المشروع “لأمر جلل”، ألا تظن أنك قد نطقت الكلمة خطأ؟ لعلك كنت تقصد “لحم مخلل”، أليس كذلك يا رينارد؟”
ابتسم رينارد وقد شعر بالراحة لخروجه من ورطةٍ كادت أن تحاصره، وقال: “ربما، لعلني قد فعلت. لكن، وعلى أية حال، ها هي المؤن التي أعددتها لكم للغد، وهي كثيرة بما يكفي لتشبعنا جميعا.”
قال المرموط: “لتكن الليلة”. إذا ساوره الشك فيما إذا كان الطعام سيظل موجودًا حتى الغد، وفهم الجميع الفكرة وقالوا: “نعم، إنها ليلة رائعة للاحتفال.”
وبعد أن تناول القوم طعامهم حتّى شبعوا واطمأنت قلوبهم بسرور، نهض المرموط من مجلسه قائلاً: “أحسب أنّ صديقنا رينارد قد أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن لهذا النادي اسمًا يليق به حقًا. فهو نادٍ طيب، وهذه مأدبة طيبة، ورينارد إنسان طيب.” وما إن أتم كلمته حتى أضاف الأرنب الصغير ضاحكًا بعد أن تدحرج عن كرسيه: “نعم، إنه كريمٌ… على مضض!”
غنّت جميع الحيوانات في طريق عودتها إلى أوكارها: “أوه، كلنا رفاق طيبون!” بينما جلس رينارد يتأمل لهيب النار وهو يمد قدميه على قمة الموقد، ويتأرجح بخفة وكأنه في رقصة صامتة، متفكرًا في حاله: “هل تغلب عليّ ذلك الغبي الصغير المرموط وحده، أم أنّ الأبوسوم أو الراكون قد حرضاه على ذلك؟” لم يتوصل أبدًا إلى جواب يقين، لكن النادي الطيب ما زال قائمًا في عمق الغابة التي تحتضنهم جميعا، رغما عن أن معناه لم يعد ينسجم مع ما كان رينارد يسعى إليه عندما أسس هذا النادي.
لكن الحيوانات جميعها أحبته أكثر الآن، إذ بات معنى “الطيب” مرتبطًا بالطعام الشهي الذي يتلذذون به في كل اجتماع شهري. وتوافق الجميع مرة أخرى على أن اسم النادي “الطيب” هو حقًا الاسم الذي يليق به، إذ أصبح يجسد الفرحة التي تغمر قلوبهم والأنغام التي تعزفها ضحكاتهم، وكأنها ألحان تتراقص في الأجواء، مستذكرة تلك اللحظات السعيدة التي تجمعهم تحت ظلال الأشجار.