في عالمٍ يفيض بالسحر، حيث تتشابك خيوط الطفولة مع نسائم البراري العليلة، نروي لكم حكاية فلورنس ونيكولاس، الأخوان اللذان يجمعهما نقاء الروح وعذوبة الأيام.
ذات يوم كان الأخوان يتنقلان بين أزهار البراري والأعراش. ولكن، تلعب يد الأقدار فتهديهما الصدفة مفاجأة غير متوقعة؛ إذ صادفا عفريتًا يركض بكامل سرعته نحو صخرةٍ شامخة.
توقف المشهد أمامهما، وبدت الدهشة على وجه نيكولاس، فسأل بفضول: “ما الذي يجعلك في هذه العجلة، أيها العفريت؟ قف لحظةً وأخبرنا عن مبتغاك.”
قال العفريت: “يجب أن أبلغ منزلي بأقصى سرعة، فاليوم عيدنا، ولا بد أنك على علم بأنّ الأشجار ستكون مليئة اليوم.”
سأله الطفلان بفضول: “وما صلة الأشجار بعيدكم هذا؟”
فأجاب العفريت مبتسمًا: “ألا تعرفان، أنه مرةً في كل عام حيث أعيش، تمتلئ الأشجار بأطيب الأطعمة وألذها فتستطيع حينئذٍ أن تأكل وتلتهم منها ما تشاء دون أن تشعر بأيّ ضرر يذكر!”
قالت فلورنس بحسرة: “أتمنى لو كانت لدينا شجرة من هذا القبيل.”
فرد نيكولاس قائلاً: “وأنا أيضًا أتوق لذلك. أيمكن أن تأخذنا معك إلى هناك؟”
أجاب العفريت: “نعم، ولكن شرطي أن تسرعا الخطى.”
تبع فلورنس ونيكولاس العفريت في مسعاه السريع، وعندما بلغوا صخرةً عظيمةً مغطاة بطبقةٍ من الأعشاب الطفيلية الخضراء، طرق العفريت عليها ثلاث مرات ثم نطق بكلماتٍ غامضة: “سو أو نيبو”، فارتفعت الصخرة فاتحةً مدخلًا مظلمًا يسفر عن درب يلوح بالغموض. تقدم الأطفال بحذرٍ في أول الأمر، وبينما كانت الظلمة تحيط بهم ظهرت أمامهم فجأةً أضواءٌ ساحرة فوجدوا أنفسهم في بستانٍ وكأنه من عالم الخيال حيث الأشجار ممتلئة بكلّ طعامٍ شهي، والعفاريت تحلق بين الأغصان، تقطف ما لَذَّ وطاب من الثمار.
أقبل العفريت على فلورنس ونيكولاس، قائلاً: “عليكما أن تخدما أنفسكما، فهذا المشهد لا يتكرر إلا مرةً في العام، ولكلٍ أَنْ يحرص على نصيبه.” ثم انطلق العفريت من جديد، تاركاً الأطفال في دهشةٍ وفرح.
قال نيكولاس، وهو ينظر إلى الشجرة المتلألئة: “أحب شطائر الدجاج أكثر من أيّ شيء آخر، فلنبحث عن تلك الشجرة.”
أجابت فلورنس، وهي تلمح قطع الخبز تتدلى: “ها هي هنالك!”
ملأت فلورنس مئزرها، وأخذ نيكولاس ما تيسر له من الطعام بيديه الاثنتين، ثم جلسا معاً ليأكلا. وبينما هما يستمتعان بما لديهما، رأت فلورنس شجرةً مشبعة بالمخلّلات. فركض نيكولاس نحوها وجمع منها بعضاً، ثم لمح شجرةً أخرى مغطاة برقائق البطاطس، فصاح بفرح: “أوه، أحب هذه البطاطس!”، وتمنى لو كان يمتلك سلة ليجمع أكثر عدد ممكن منها.
قالت فلورنس: “استعر واحدة من العفاريت.”
في هذا اليوم بالذات كان العفاريت كرماءَ، فأعاروه سلةً كبيرة. وبسرعة، استمتعا بما جمعوه من الطعام.
قال نيكولاس بمرح: “سوف آكل كل ما أريده اليوم، فقد أخبرتنا العفاريت أنه لن يصيبنا أيّ أذى في هذا اليوم.”
وبعد أن أتمّا تناول جميع الشطائر، رأى نيكولاس شجرةً محملةً بأنواع شتى من الكعك، وبجانبها شجرة مخروطية الشكل مليئة بكلّ أنواع الآيس كريم. وكان أغرب ما في الأمر، أنه بعد أن شبعا من كلّ ما اشتهته عيناهما، بقي بمقدورهما الاستمرار في الاستزادة من الطعام دون أن يشعرا بأيّ ازعاج.
قالت فلورنس بفرح: “تلك شجرة الحلوى، لنذهب صوبها!” فبدأ نيكولاس بملء جيوبه وفلورنس بملىء مئزرها، إذ لم يكن قد سنحت لهما فرصة بتناول كل ما يرغبان به من الحلوى من قبل، وهذه كانت فرصة العمر لذلك. وقد تنوعت أصناف الحلوى بوفرة، وسرعان ما عاد الطفلان ليركضا إلى الشجرة لالتقاط المزيد.
ثمّ نظر نيكولاس نحو بئرٍ قريب، قائلاً: “لقد اشتد عطشي بحق.” وعندما سحب الدلو إلى الأعلى، اكتشف أنّ البئر مملوء عن آخره بمشروبات غازية باردة ولذيذة بدلاً من الماء.
قالت فلورنس، وهي تشير إلى البئر: “دعنا نركن إلى جانب هذا البئر ونغتنم فرصة الاستمتاع بالمشروبات الغازية اللذيذة طوال اليوم.” ولكن، بعدَ أنْ شبعا من هذه المشروبات الفريدة، بدأ التعب يتسلل إليهما، فانصرفا يبحثان عن العفاريت. سألت فلورنس بقلق وحيرة: “أين العفاريت؟ لا أرى لهم أثراً في أيّ مكان.”
قال نيكولاس، وهو يقترب من العفاريت: “إنهم مستلقون على الأرض، كأنهم يغطّون في سُباتٍ عميق.”
سألت فلورنس بقلق، بينما كان نيكولاس يهز أحدهم دون جدوى: “هل تراهم قد فارقوا الحياة؟”
أجاب نيكولاس، وقد اختلط عليه الأمر: “كلّا، هم في سباتٍ عميق. آه!” ثم صرخ فجأة وتراجع مذعورًا عندما أصدر أحد العفاريت شخيرًا مدويًا، وما لبث أن انتفضت باقي العفاريت الأخرى ضاجّةً بصخبٍ مزعج جعل الطفلين يضعان يديهما على أذنيهما ويهربان في فزع عارم.
حينما بلغا الصخرة التي دخلا منها إلى عوالم العفاريت، توقّفا، وجلسا على الأرض مرهقين. قالت فلورنس، وهي تستند برأسها على الصخرة وكأنها تستجمع قواها: “آه، إن النعاس يثقل جفنيّ!” وسرعان ما غفت في لحظةٍ عابرة، حتّى قبل أن يفيق نيكولاس من ذهوله. ثم بدأت تتنفس بصوتٍ عالٍ، تمامًا كما فعلت العفاريت.
قال نيكولاس، وقد اعتراه القلق: “ماذا عساني أن أفعل؟ أشعر بالنعاس أيضاً، ولكنني لا أجرؤ على النوم، فيبدو أنّ تداعيات ذلك لا تُحمد عقباها.” فطرق على الصخرة ثلاث مرات وقال: “سو أو نيبو”، فانفتحت الصخرة كأنها باب إلى عالم آخر.
صرخ نيكولاس، وهو يهز فلورنس في جزع: “لا أستطيع ترك فلورنس هنا، استيقظي!” لكنها لم تستجب أبدا.
رآه أحد الأرانب المارة بالقرب من المكان وسأله بفضول: “ما الأمر؟”
أخبره نيكولاس عن مأدبة العفاريت وكيف غفت فلورنس بشكل لم يُجدِ معه أيّ إيقاظ.
قال الأرنب بلهجة مليئة بالحكمة: “إن لم تخرجها من هنا، فسوف تنام شهراً كاملاً، وأنت أيضاً ستغرق في سباتٍ عميق إذا بقيت هنا. ألا يمكنك سحبها إلى الخارج؟”
أمسك نيكولاس بكتفي فلورنس وجذبها نحو مدخل الصخرة، وبمجرد أن استنشقت الهواء الطلق، فتحت عينيها ببطء.
سألت، وهي تتفحص المكان بفضول: “أين أنا؟”
أجاب نيكولاس، وهو يحاول تهدئة مخاوفها: “كنتِ في سباتٍ عميق، وكنتِ تتنفسين كما يشخر العفاريت.”
أضاف الأرنب، بصوت مفعم بالحكمة والوقار: “الطعام الذي تناولتموه في مأدبة العفاريت ليس له ضرر في ذاته، لكنه قد يجعلكم تغطون في نومٍ عميق قد يمتد لشهرٍ كامل. أنتم محظوظون لأنكم لم تتحولوا إلى صخرةٍ أو شجرة، كما قد يحدث لبعض العفاريت الذين يطول نومهم هنالك دون أن يوقظهم أحد.”
قال نيكولاس، وهما يسيران نحو المنزل: “من العجيب أنني أشعر بالجوع وكأنني لم أتناول شيئاً خلال تلك المأدبة.”
أجابت فلورنس بلهجة منكسرة: “وأنا أيضاً أشاطرك الشعور. فلنسرع إلى المنزل، فقد يكون وقت العشاء قد حلّ بالفعل.”