كيف نبذت زهرة عباد الشمس؟

لقد هيمنت عفاريت الغبار على الأرض أيَّامًا وليال، إذ قدمت أشعَّة الشمس الذهبية بضيائها الدافئ، فتنامت عفاريت الغبار تحت كنفها. وعانت الزهور والأشجار من وطأة ذلك، فاختنقت أنفاسها تحت سطوة العفاريت، حتى اشتاقت لجنيّات المطر لتأتي وتخلصهن من عفاريت الغبار هذه.

وفي إحدى الليالي، حين كانت زهور الحديقة تئن تحت وطأة الغبار، وقد أرخَت برؤوسها رغم نسمات الليل العليلة، دارت مختلف الأحاديث بين الشجيرات، حيث تكلّمت شجيرة الورد الصغيرة التي تنمو بجوار الحديقة إلى زهرة عباد الشمس الباسقة المنتصبة بجوارها. 

فقالت: “يا زهرة عباد الشمس، أنتِ أول من يستقبل شمس الصباح. لما لا تطلبين من تلك الشمس المشرقة أن تستدعي جنيات المطر، فتخبرهن بمعاناتنا تحت ضغوط عفاريت الغبار؟ براعمي جفت، ولن أستطيع الانفتاح أبدًا إذا لم تأتِ جنيات المطر لطرد هذه الكائنات الشقية في القريب العاجل.”

فما كان من زهرة عباد الشمس إلا أن هزّتَ رأسها بتيبُّس، كأنَّها تجيب بلا إجابة. حينها همست نبتة العَسَلَة، التي تعانق حائط الحديقة: “ألا تدرين أيتها الوردة اليافعة، أنّ زهرة عباد الشمس تُحبُّ النور، ولن تطلب من الشمس أبدًا أن تغيب حتى ليومٍ واحد؟! ثم إنّ هذه العفاريت لا تنام، بل تستيقظ بظهور الشمس. أما أنا فسأصعد إلى الشجرة العالية وراء الجدار، حيث ألتقط النسائم العلوية، لعلي أتمكن من أخبارها بحال أزهار الحديقة الحزينة، وأُعلمها بمحنتهن الأليمة.”

فأيَّ فجرٍ ينتظر أزهار الحديقة، وأيُّ نسيمٍ يحمل بشائر الخلاص من عفاريت الغبار؟


لقد كانت العَسَلَة كائنًا رقيقًا، متواضعًا، كأنما نسجت من الحياء نسجا. ورغما عن أنّ أزهار الحديقة كانت تدرك تمامًا أنها تأوي إلى جدران الحائط، فإنها لم تشعر أبدًا بأنها تنتمي إلى سلك جماعتها، ولم يلتفت إليها إحداها من قبل، كأنها نسيم عابر لا يدري أحد بمساره.

أومأت شجيرة الورد بأوراقها المتربة، فقالت برقة: “لطالما رأيت فيك لطافة نادرة، إنك للطيفة إلى حد يثير العجب، لكنك تقبعين في خفوت، وإن أقدمت على هذا الفعل من أجلنا، فلن تغيبي عن ذاكرتنا أبد الدهر، ولن ننسى فضلك كأنما خُطَّ في قلوبنا بأحرف من نور.”

وفي تلك الليلة، اعتلت العَسَلَة أفرع الشجرة، وأرسلت أنفاسها إلى نسيمٍ عابر، تخبره بما تعانيه الأزهار من عفاريت الغبار الذين ذقن ذرعا بهم. فقد منعوهن الهواء الرطب واستأصلوا منهن ألوانهن الزاهية، مُحذِّرةً من أن الأوان سيفوت إذا لم تهرع جنيات المطر لنجدتهن. 

وقبل أن تشرق الشمس، سمع الجميع صوت “طقطق، طقطق، طقطق”، حيث أقبلت جنيات المطر ملبين النداء متراطمات على أوراق الأشجار والزهور والأرض كأنهن جنديات مُعَدّات لملاقاة العدو، وبلمح البصر، سبقن عفاريت الغبار إلى المعركة، فهزمنهم شر هزيمة.

وإنك لتلاحظ أحيانًا حين يلامس المطر الأرض المتربة، كيف يتصاعد الغبار في رقصات مضطربة، كأنهم كائنات تحاول الاعتراض، لكن هيهات! فسرعان ما تُقهر تحت أقدام الجنيات الفائزات. وهكذا كان المشهد في صباح ذلك اليوم في حديقة الزهور، حيث أقبلت الجنيات بخطوات عابرة سريعة كالسحاب، فاندفعت عفاريت الغبار إلى الأرض، ونظرت الأزهار صوب السماء أخيرا بكل ثقة، ورفع البلاء وعمت الأفراح. 

استهلت شجيرة الورد الكلام، قائلةً للزهرات: “لقد كانت العَسَلَة هي التي خلصتنا من عذابنا هذا. في حين بخلت عباد الشمس عن مساعدتنا، حيث لو ساعدتنا كانت ستحرم من حبيبتها الشمس إثر سقوط جنيات المطر. لقد آثرت ألا تضحي بيوم واحد دون شمس وخاطرت في المقابل باحتراقنا جميعا دون رأفة. لولا لطف العَسَلَة وكرمها، لحلّ بنا الهلاك. فلتحيا العَسَلَة في قلوبنا ولنحفظ لها ودها هذا أبد الدهر يا جاراتي ولنقبلها كواحدة منّا من الآن فصاعدًا.”

علّقت زنبقة مهيبة: “وأرى أن زهرة عباد الشمس يجب أن تُعاقب على رفضها مد يد العون لنا. لم أشعر قط أنها تنتمي حقًا إلى مجموعتنا، ابتداء، والآن قد أثبتت ذلك. فطول قامتِها يجعلها بعيدة عن الرقة، وهي تتسم بالريفية والخشونة، دائمًا ما تحدق من فوق جدار الحديقة كمن يتفحص العالم من شرفةٍ عالية بغرور.”

وهكذا أصبح مصير عباد الشمس أن تُنبذ من حدائق الأزهار، لتنمو غالبًا في الأفنية الخلفية للمنازل، وهذا بعدما تخلت عن الزهور في يومٍ غابر حين هاجمتهم عفاريت الغبار.

أما العَسَلَة، فهي تُرى الآن متألقةً على أسوار مختلف الحدائق، حيث تنموا أجمل الزهور وتنبض بالحياة، إذ منذ ذلك اليوم الذي أسدَت فيه العون، عدتها الأزهار أخت لهن، تعبيرًا عن أواصر المحبة والوئام.


Downloads