كان يا مكان في سالف العصر والأوان، كانت الأزهار كافة تكتسي بحُلل بيضاء ناصعة كالثلج البكر. وفي تلك الأيام الغابرة، كان لكل زهرة أن تنال لونها الفريد بقوة سحرية تسري في عروق الطبيعة الخفية. فالأقحوانة الصغيرة، ذات العيون الذهبية المتلألئة، نالت صفرتها الساطعة حين قام العفاريت بقذف الجنيات الصغيرات بسهام من أشعة الشمس المتوهجة.
كانت الأقحوانة تزهو بعينها الصفراء، واثقة بأنها في غاية البهاء بحوافها البيضاء النقية المحيطة بها كهالة من نور سماوي.
وذات يوم، ألقت الأقحوانة نظرة على المرج الأخضر الذي نشأت فيه، فإذا بها ترى زهوراً بيضاء صغيرة تنتشر في كل صوب وحدب، كأنها نجوم تناثرت على بساط الأرض.
فهمست الأقحوانة لنفسها بصوتها الرقيق الناعم: “ما أكثر البياض في هذا الحقل! إنّ بتلاتنا البيضاء الفاتنة ستزداد تألقاً لو اكتست الزهور البيضاء الصغيرة بحلة ذهبية.”
فردت عليها أخواتها من الأقحوان بحكمة: “ولكن علّ الزهور البيضاء لا ترغب في اكتساء حلة ذهبية. ما أدراك بذلك؟”
وهنا، كأنما استجابت الطبيعة لهمسات الزهور، انطلق صوت جماعي من الزهور البيضاء الصغيرة كأنه لحن شجي: “بل نحن نتوق إلى ذلك أيتها الأقحوانات الجميلات. لطالما راودنا الحلم بلون ذهبي بهي كعيونكن، لكنّنا ظننا أنكن لا تحبذن مشاركتكن هذا اللون لكوننا نقطن ذات الحقل.”
فابتهجت الأقحوانة الصغيرة وقالت بحماسة: “يا لروعة هذا الأمر! سيغدو المرج أكثر بهاءً بكن وأنتن تتزين بالذهبي مع الأبيض. بل إن هذا التحول سيعود بالنفع على الجميع، وسننعم كلنا بثمار هذا التغيير الساحر.”
فسألت الزهور البيضاء بلهفة: “ولكن من ذا الذي سيعيننا على تبديل لوننا؟”
ففكرت الأقحوانة ملياً، وعيناها تتوقدان ذكاءً، ثم قالت أخيراً: “لعلكن تستطعن إقناع الأقزام بإضفاء هذا اللون عليكن. المهم هو أن يقوموا بذلك حقاً. إنهم مخلوقات غريبة الأطوار، فلو ظنوا أنهم قادرون على إثارة حنق الجنيات، لبادروا إلى فعل أيّ شيء على الفور. ولكن لو طلبنا منهم أن يصبغوكن بالذهبي حتى نزيد جمالاً، فربما ضحكوا علينا وولّوا الأدبار.”
فسألت الزهور البيضاء بمكر: “لِمَ لا نجعلهم يظنون أنهم سيثيرون غضب الجنيات إن صبغونا بالذهب؟ حينها سنجد حتماً سبيلاً لدفعهم إلى فعل ذلك.”
فأجابت الأقحوانة: “فكرة سديدة، ولكن كيف تعتزمن تنفيذها؟”
فردت الزهور البيضاء: “سنسأل الجنيات حين يأتين للمرح في الحقول هذه الليلة.”
وفي جنح الليل، حين حلقت الجنيات فوق الحقل، نادت عليهن الزهور البيضاء وأفصحت عن رغبتها.
فقالت ملكة الجنيات: “يا له من أمر بديع! نعم، يسهل علينا في الحقيقة خداع العفاريت الأغبياء.”
جمعت الملكة جنياتها حولها وهمست بصوت خافت لم تسمعه زهور الحقل، لكنهن سمعن ضحكات الجنيات وهن يطرن بعيداً. ثم حطت كل جنية على زهرة بيضاء صغيرة وبدأت تهمس:
” أَلا يا زُهورَ البِيضِ في سَهلِ وادينا *** سَنَحميكُنَّ مِن كُلِّ خَطبٍ يُؤذيـنا
بياض الصَّفا نَفديكُنَّ إِن رامَ ضَيـمٌ *** وَنَسقيكُنَّ إِن شَحَّ الغَمامُ عَلَينا
فُقتُنَّ الأَقاحي في الرُّبى وسَنا الضُّحى *** كَأَنَّكُنَّ بَدرٌ في دُجى اللَيلِ يَهدينا
كَشَمعٍ يُضيءُ في ظَلامِ مُدلَهِـمٍّ *** فَتَبدو كَنَجمٍ في السَّماءِ يُناجينا”
ظلت الجنيات تكرر هذه الأبيات مراراً وتكراراً وهن ينحنين لتقبيل الزهور. وبين الفينة والأخرى، كانت العفاريت تظهر من الغابة، تقفز وتثب كأوراق الشجر في مهب الريح.
قالت العفاريت حين رأت الجنيات: “انظروا، ها هن هناك. أصغوا واسمعوا ما يغنين.”
حين سمعت العفاريت أغنية الحب الجميلة التي تغنيها الجنيات للزهور البيضاء الصغيرة، ركلت كعاب بعضها البعض وضحكت بصخب، كل منها يضع إصبعه الصغير بجانب أنفه ويغمز لإخوته. عادوا راكضين إلى الغابة، لكن الجنيات استمررن في همس أغنيتهن، بينما راقبت الأقحوانة الصغيرة بعينها الصفراء، متسائلة كيف ستنال صديقاتها، الأزهار البيضاء ، اللون الذي تتوق إليه.
تدريجياً، عادت العفاريت من الغابة، لكنها هذه المرة كانت تحمل أكياساً على أكتافها وتتسلل عبر العشب بحذر.
كانت الجنيات تراقبنهم طوال الوقت، لكنهن بالطبع تظاهرن بعدم رؤيتهم، وعندما اقتربت العفاريت، قالت ملكة الجنيات: “هلموا يا صغيراتي، دعوا أزهاركن المحبوبات لهذه الليلة. يمكنكن العودة غداً.”
وبينما طارت الجنيات بعيداً، نظرن إلى الوراء، وفي ضوء القمر، رأين العفاريت تعمل بجد على كلّ زهرة بيضاء صغيرة.
حين حلت شمس الصبيحة، أشرقت بضوئها الخلاب على كل الأرجاء ورَأَتْ من بعيد في كلّ أنحاء الحقل بين الأقحوانات كؤوساً ذهبية صغيرة تتمايل بسعادة لصديقاتها ذوي العيون الذهبية.
وعندما حلّ الليل، حلّقت الجنيات عبر الحقول، وشاهدن الزهور على شكل الكؤوس الذهبية. فقلن لهنّ: “لقد أصبحتن أكثر جمالاً من ذي قبل، وسندعوكن الآن ‘كؤوسنا الذهبية’، لكن يجب أن تُعرفن باسم ‘الحوذان’، وإلا فستكتشف العفاريت خدعتنا وتعيدكن إلى اللون الأبيض.”
شكرت الحوذان الجنيات بحرارة وأخبرتهن أنهن سيسعدن بأن يكنّ ‘كؤوسهن الذهبية’ عندما يقمن بوليمة، وأنهن لن يدعن العفاريت تعلم أبداً أنّ الجنيات قد خدعتهم.
ومنذ ذلك الحين، أزهر الحوذان بين الأقحوانات في الحقول، لكنهن يعلمن أنهن الكؤوس الذهبية الصغيرة للجنيات. وما زالت العفاريت تتساءل لماذا تبدو الجنيات سعيدة للغاية عندما يطرن بالقرب من الحوذان رغما عن أنّ لونهن الأبيض قد تغيّر بالكامل.
لكنّ الجنيات أحكم من أن يدعن العفاريت يعرفن كيف تمّ خداعهم. وبالنسبة للحوذان، يصعب عليهن أحياناً ألا يخبرن باقي المخلوقات كيف حصلن على اللون الذي أردنه عندما تهرع العفاريت الصغيرة محاولةً إفساد خططهن. ولكن ملكة الجنيات علمتهن أنّ “الصمت من ذهب”، وهن يعلمن أنّ ملكتهن دائماً على صواب.