بطلتنا باتي أرنبة صغيرة، مرحة وجميلة، ذات وجه مضيء وملامح آسرة، تملأ الدنيا بهجة وفرحًا. جلست ذات يوم تتأمل كتابها، وقد ارتسمت على وجهها غيوم الحزن. غاصت باتي بفكرها في أعماق الصور المتناثرة في ورقات الكتاب حتى لم تلاحظ قدوم جدتها، فلم تنهض لاستقبالها كما كانت تفعل دائماً.
همست الجدة الأرنبة في أذنها بصوتها الحنون كالنسيم: “ما بالك يا نور عيني؟ كأن حروف كتابك وأحاديثه لا تلامس شغاف قلبك.”
انتفضت باتي الصغيرة، وأسقطت كتابها على البساط، ثم هرعت نحو جدتها قائلة: “لم أنتبه لحضورك يا جدتي.” فردت الجدة بابتسامة دافئة: “أخبريني يا زهرة البستان، لماذا أراكِ واجمة؟ ألا يبهجك هذا الكتاب الشيّق؟”
أجابت الصغيرة بصوت مملوء بالشوق والحنين: “بلى، يسعدني أحيانًا، ولكنني سئمت من قراءة مغامرات الأرانب بيتر وجاكي وبيني، والتحديق في صورهم طوال الوقت. كم يحن قلبي لسماع قصة عن أرنبة صغيرة مثلي. يا جدتي! ألا تروي لنا الأرنبات الصغيرات حكايات تستحق أن تُسمع وتُحكى؟”
ابتسمت الجدة الأرنبة بحنان وقالت: “بلى يا جوهرة الفؤاد. ألم تسمعي من قبل قصة سوزي الأرنبة التي التهمت دميتها؟”
قفزت باتي الأرنبة كغزالٍ شارد، تدور حول جدتها بفرح على قوائمها الخلفية، وقد انتصبت أذناها من شدة الشوق لسماع القصة، فصاحت بصوتها الناعم: “آه يا جدتي، لا تحرميني من حكايتك! فكلي آذن صاغية.”
جلست الجدة الأرنبة على درجات البيت، وأخرجت من حقيبتها أدوات الحياكة، وشرعت تنسج الصوف وتروي حكاية سوزي الأرنبة.
قالت الجدة الأرنبة بصوتها المفعم بالحكمة: “كان يا ما كان، في سالف العصر والأوان، عاشت أرنبة صغيرة تُدعى سوزي. عاشت مع والديها الفقيرين في بيتٍ بسيطٍ بعيدٍ عن الرفاهية التي تحظين بها الآن، فلم يكن لديها لا الطعام الوفير، ولا الكتب المصوّرة التي تنعمين بها.
كانت سوزي تعاني من شظف العيش، ولا تملك من متاع الدنيا شيئاً، وكانت تُعدّ نفسها محظوظة إذا ما وجدت قوت يومها. وفي أحد الأيام، رأت سوزي فتاةً صغيرةً تحمل دميةً جميلةً تمرّ عبر الغابة التي تسكنها، فأسرعت إلى بيتها والغيرة تعتصر قلبها، وصرخت مطالبةً بدُمية مثلها.
لكن والدتها العطوفة لم تستطع تلبية طلبها؛ إذ كانوا يعيشون في منطقةٍ نائيةٍ بعيداً عن المتاجر، وحتى إن وُجدت المتاجر، فلم يكن لديهم المال الكافي لشراء الدمية. بكت سوزي بمرارة، ولم يتوقف نحيبها حتى عاد والدها إلى البيت.
سأل الأب بقلقٍ بالغ: “ما بال سوزي تبكي بهذا الشكل؟” فأجابته الأم بحزن: “فتاتنا تريد دمية.” وبعد أن أودعت سوزي في فراشها تلك الليلة، أشرقت في ذهن الأم فكرةٌ فريدة، فقالت لزوجها بحماس: “لقد خطر لي حلّ ما؛ يمكننا صنع دمية تلبي رغبة سوزي.”
تعجب الأب من كلامها وسأل باستغراب: “وكيف نصنع هذه الدمية؟” فابتسمت الأم بذكاء وحنكة وقالت: “اذهب إلى حديقة المزرعة فوق التل، واحضر لي جزرة كبيرة ورأس خس طازج، وسأريك كيف تُصنع، فلنمنح سوزي فرحةً تخلد في ذاكرة الأيام.”
هرع الأب مسرعاً إلى الحديقة، وعاد حاملاً الجزرة والخس كمن يحمل كنوز الأرض بين يديه. وبدأت الأم في إبداعها الفريد، فأخذت تقطع رأس الجزرة ليكون رأسًا للدمية، وصنعت عيوناً وفماً وأنفاً من حبات التوت الأحمر الفاقعة اللون. ثم أبدعت فستاناً جميلاً من أوراق الخس المزركشة، التي تدلت من جسمها كأجنحة الفراشات. وكان الفستان طويلاً يغطي كلّ شيء، فلم تكن هناك حاجة لصنع أقدام. بدت الدمية كأنها أميرة من مملكة الأحلام، تكتسي بألوان الطبيعة وتستمد من جمالها البديع رونقًا أخاذًا.
ألبستها الأم عباءةً من ورقة خسٍ عريضة، وأوْشَت رأسَها بغطاءٍ من ورقةٍ أضأل، وأحكمت تثبيت تلك الأثواب بأعوادٍ رقيقة نحتها والد سوزي بمهارةٍ فائقة من أغصان الأشجار. ثم رفعت الأم بفخر، وقالت بنبرةٍ تفيض بالاعتزاز: “ها هي أمامك مكتملة، أترى كيف أضحت في زينتها؟ أليست كأميرةٍ من عالم الخيال؟”
فضحك الأب قائلاً، وهو يلعق شفتيه، وقد أشرق وجهه بابتسامة ماكرة: “إنها تبدو جميلة لدرجة أنها تثير الشهية!” وهكذا، أصبحت الدمية تحفةً فنيةً حية، تلوح بألوانها الطبيعية وجمالها الفريد، كأنما خرجت من عالمٍ خياليٍ ملونٍ إلى واقعٍ مفعم بالحياة.
رشّت الأم الدمية برذاذ الماء كي تبقى نديةً وطازجة، ثم وضعتها برفق بجوار سرير سوزي، كمن يضع كنزًا ثمينًا في مكانٍ محمي. وفي أول ضوء الفجر، استيقظت سوزي ووقعت عيناها على الدمية الجميلة التي كانت تتلألأ بجانبها. فجأةً، أطلقت صرخة فرحٍ عارمة: “آه! لدي دمية! لدي دمية!” وضحكت من أعماق قلبها، ثم جرت نحو والدتها، وهي تحمل الدمية بين ذراعيها الصغيرتين كأنها تحوي أثمن الجواهر، وعيناها تتلألآن بفرحةٍ عارمةٍ وكأنهما تعكسان نور السعادة الذي يغمر قلبها.
لعبت سوزي بالدمية طويلاً، في غمرة من الفرح، تُدنيها إلى قلبها وتغمرها بعنايتها، غير أنَّ حياة سوزي الأرنبة لم تكن تعرف سوى الشحّ وضيق الحال، وكانت تدور في فلكٍ من الفقر لا تُذوق فيه سوى ما يسد رمقها. في عالمها الذي قلما تنعم فيه باليسير قبل الكثير، كانت الجزرة والخس من الثروات النادرة التي تستثير في النفس شوقاً وشهيةً.
وهكذا، بدأت الدمية تثير في سوزي رغبةً جامحة للأكل، تسربت إلى قلبها، وسرعان ما وجدت نفسها تقاوم الإغراء، ولكنها لم تنجح في التغلب عليه. بدأت تقضم قليلاً من عباءة الدمية، مُتلذذةً بطعمها، ثم انتقلت إلى تنورتها، فقضمت منها قضمةً إثر أخرى، حتى استسلمت كلياً لرغبتها التي لا تُقاوم.
قالت سوزي، وهي تراقب دميتها بتأملٍ عميق: “أظن أن تنورتها ستبدو أجمل لو كانت تحتوي على كشكشٍ واحد فقط.” ثم بدأت تقضم ورقة خسٍ واحدة، وكأنها تعدّل في ثوبٍ خيالي.
ومع مرور الأيام، أكلت سوزي القلنسوة، ثم لم تلبث أن قضمت الكشكش الآخر والعباءة، حتى تحوّلت كل تفاصيل الدمية إلى قطع صغيرة. وعندما استنزفت ما بقي، قالت: “دمية بلا ثوب، لا نفع فيها.” وهكذا، انتهت دمية سوزي الأرنبة، وتحوّلت إلى طعامٍ شهيّ في عالمٍ شحت فيه النعم.
استمعت باتي بكل انتباه، ثم قالت: “يا جدتي، هذه قصة جميلة حقًا. أعتقد أنها تستحق أن تُطبع في كتاب. ألا ترغبين في طبعها؟ من فضلك، افعلي ذلك. أنا أعرف الكثير من الأطفال الصغار الذين سيحبون قراءة قصة عن أرنبة فتاة، بالإضافة إلى بيتر وجاكي والأرانب الصبية الأخرى.”
فلبّت الجدة الأرنبة طلب صغيرتها بحبٍ عميق، وسعت لتحقيق حلمها بكل جدٍ واجتهاد. وهكذا، بفضل تلك اللمسة الحانية، وصلت هذه القصة الجميلة إلى أيديكم.