في زوايا المزرعة، كانت الجدة كواك العجوز، التي عرفت بذكائها وحنكتها، أول من تنبّه للحدث الجلل، إذ سمعت همسات القدر قبل أن تتفتح أزهار البستان. فعدلت قبعتها بحزمٍ وثبات، إذ لم يكن لتسمح لأحدٍ أن يسبقها إلى الساحات، فتسلبها فرصة نشر الأخبار ونقل الشائعات. كأنما كانت تحاكِم الزمن وتؤكد على أن الرزق لا يأتي إلا لمن يُبادر، فهي العنوان، وهي الخبر، وهي سيدة كل محفل، لا يُغفل لها صدى، ولا يُجحد لها حق.
أجابت وهي ترفع نظاراتها، كأنما تبتغي استشراف آفاق بعيد: “نعم، إن بيني الدجاجة ستقيم عرسها غدًا في بستانٍ يطل على البركة، باكرًا قبل شروق الشمس حتى يحضر القس البومة، ويكون شاهدًا على غرس البذر الجديد في حديقة المودة، ويشهد لحظة انطلاق هذا العهد.”
ولم تكن الدجاجة بيني بحاجة إلى إرسال دعوات، إذ انتشرت الأخبار في أرجاء المزرعة كالنار في الهشيم، وكأنما كانت كلمتها نغمًا تتردد في آذان الجميع، إذ توافد الضيوف في الصباح المُشرق، متلهفين لرؤية احتفالية الحب هذه. أما العريس، فقد كان الديك الوسيم، ابن المزرعة المجاورة، الذي زُيّن بالريش البراق وعنفوان الشباب. بينما كانت الدجاجة بيني على وشك مغادرة ساحة المزرعة، التي شهدت أبهى لحظات طفولتها، لتنتقل إلى مسكنٍ جديد يليق برفعة زفافها، ويُحاكي سمو أحلامها.
استعدت البطات للسباحة مبكرًا، وتمايلن على ضفة البركة كأنهن رقاقاتٍ من نور، حين بدأ الضيوف الآخرون يتدفقون إلى البستان، وكأنهم زهور تتفتح تحت أشعة الشمس. وجد الدجاجات والديوك أماكنً جميلةً على الصخور، بينما اعتلت الديوك الرومية أغصان الأشجار، لتتأمل الأحداث في وقار، وتراقب ما يجري بأعينها الحادة. تقدمت الجدة كواك إلى الصفوف الأمامية قرب الحفل، حتى اضطر القس بوم إلى أن يطلب منها برقةٍ أن تبتعد عن ريش ذيله الممشوق.
أما الغراب، فقد كان يحلق نحو حقل الذرة، حينما لاح له هذا الزحام، فاستغنى عن إفطاره تمامًا، إذ لم يكن ليضيع فرصة مشاهدة ما يجري، سواء دُعي أو لم يُدع. وحينئذٍ قال، وهو يهبط إلى غصنٍ يُتيح له رؤية ما يُحيط به: “أتعجب ما الذي يجري بين تلك الحشود؟ لعله حفل زفاف ما. ها، لا أرى طعامًا هنا! أحقًا ثمة زفافٌ يُقام بلا إفطار! لا طائل من البقاء هنا لمشاهدة القس بوم يغادر، وهو يصطدم برأسه الكبير الأشجار كما هي عادته فقد بلغ به الكبر عتيا.”
لكن، بينما الغراب كان يحلق فوق الحقل، لمح الثعلب يزحف في العشب الطويل، كأنه ظل خبيث. بدا كأنه يجمع المعلومات ويخطط لشيء ما، إذ كانت عيناه تلمعان بشغفٍ، وكأنما يحمل في جعبته دسيسة تُخفي وراءها ما لا يُحمد عُقباه.
سأل الغراب الثعلب حينذاك: “أتنوي الذهاب إلى الزفاف؟” ثم أضاف، بنبرة تحمل في طياتها شيئًا من السخرية: “بالطبع، لقد كنت مدعوًا، أيها الثعلب، ولكنك تأخرت. فقد أتم القس بوم مراسم الزواج قبل أن تُغادر.”
لم يكن الثعلب يُبدي أي سرور من أن الغراب قد رآه، لكنه اتخذ من التظاهر درعًا يستر غضبه، مدعيًا أنه في طريقه إلى البركة ليشرب، وأن الزفاف لا يعني له شيئًا، بل لم يعلم به أصلا وكل ذلك في حقيقة الأمر عارٍ من الصدق. فقد أقبل على ساحة المزرعة في اليوم السابق، طامعًا في دجاجة سمينة لعشاءه، واستمع باهتمامٍ للجدة كواك وهي تُذيع الخبر، الذي انتشر في أرجاء المزرعة كالنار في الهشيم. لذا قرر أن ينتظر حتى يكتمل حشد الضيوف، مُتوقّعًا أن الضجة والازدحام سيكونان حليفاه، ليقتنص أفضل دجاجة في تلك الاحتفالية السعيدة.
صاح الغراب بصوتٍ عالٍ: “ها، ها!” إنك لبارعٌ في الكلام، أيها الثعلب، لكن عيناي لا تخدعان. فكلما زادت محاولاتك، ازدادت عيوني انفتاحًا، ورغبت في رؤية حيلك البائسة. فأنت تدّعي اللامبالاة، بينما يجذبك الزفاف كما تجذب الفضلات الذباب، فلن يخفى عني مرادك.”
حينئذٍ طار الغراب مبتعدًا عن المكان، فظن الثعلب أنه قد غادر. ومع ذلك، لم يكن الثعلب ليعلم أنّ هذا الماكر قد أدار وجهته وعاد متخفيًا من مسارٍ آخر، دون أن يشعر به. وصل الغراب إلى البستان في تلك اللحظة، حين بدأ الضيوف بالتدفق نحو ساحة المزرعة ليحتفلوا بفطور الزفاف، كأنهم أسرابٌ من الطيور المتحمسة. وحينئذٍ تمتم في نفسه، “أه، إنني لطائر محظوظ!” ثم هبط بحركة مهيبة إلى وسط الحفل، حيث تدوي الطبول. و بصوتٍ مفعمٍ بالحيوية، أعلن: “أيها الأحباب! إن الثعلب لقادم!” ثم أضاف: “لقد سمع عن زفافكم الميمون، ويريد أن يلحق بفطور العرس!” فارتفعت همسات الضيوف، وتبددت الابتسامات، وأسرعت الأرجل إلى حيث يمكن أن يجدوا مأمنًا من هذا الضيف غير المرغوب فيه.
تدافع الحشد ما عدا الغراب، الذي ارتفع في السماء، مبتعدًا عن ضوضاء الاحتفال. وحينما وطئت أقدام الثعلب أرض البستان، لم يجد سوى ريشٍ متطايرٍ يشهد على ما فات. تسلل الثعلب بخطىً خفيفة إلى جانب الحظيرة، مصممًا على اصطياد دجاجة سمينة، إلا أنه وجد الغراب متربعًا في وسط الحفل، ينعم بفطوره كما لو كان ملكًا يجلس في عرش من المجد بين رعاياه.
تمتم الثعلب في غيظٍ كالبحر المتلاطم: “ذاك المحتال، لقد انكشفت حيلتي!” ولم يمضِ وقت طويل قبل أن يظهر الكلب، مروعًا، فاندفع الغراب عبر الحقول، متجاوزًا كل عقبة، بينما ظل الثعلب يتأمل في صمت، ويرسم في مخيلته خطط انتقامٍ تُطفئ نار حنقه.
وفي صباح اليوم التالي، ارتفع صوت الغراب عالياً حين لمح الثعلب بجوار البركة، متسائلاً في لهجةٍ تبدو قلقة لكنها تبطن السخرية: “لماذا لم تحضر فطور الزفاف؟ لقد كان الجمع يُفكر بك، فأين كنت؟”
ألقى الثعلب نظرةً إلى الغراب الذي اعتلى غصن الشجرة، وأجاب بصوتٍ مُتهدج لكن محملاً بذكاءٍ خبيث: “كان لدي شوكة عالقة في قدمي، ولم تسنح لي الفرصة للحضور. لكن بالتأكيد، لعل مشاركتك قد بثّت الفرح في الأجواء، كيف يمكن لأحدٍ أن يفتقدك، أيها الغراب؟”
لم يكن الغراب بارعًا في الكلام كالثعلب، لذا اكتفى بالصياح قبل أن يحلق بعيدًا، ولئن كان قد أدرك النظرة الماكرة في عيني الثعلب، لكان تيقظ لشره وأمن مكره. لكنه لم يفعل، وسرعان ما طوى النسيان فطور الزفاف.
كان الغراب كبيرا في السن ذا حكمة وفطانة، فلم يكن لشخصٍ يرتدي ثيابًا بالية أن يزرع الرعب في قلبه، بل حتى حامل السلاح، متى كان قرب غابةٍ أو شجرة، لم يكن ليخيفه.
أدرك الثعلب ذلك، ولم يكن لديه أدنى نية لإيذاء الغراب، بل كان يخطط لإدخال الرعب في قلبه حتى يصل إلى حافة الجنون، وهو ما تحقق بالفعل كما سأقص عليكم.
في صباح يوم من الأيام، قبل أن يلتقي الليل بخيوط النهار الأولى، كان الثعلب عائدًا إلى عرينه بعد أن قضّى الليل في صيد فرائسه، وعندما مر بحقل الذرة، لفتت انتباهه فزاعة رائعة المظهر. فقفز في ذهول لما رآه، إذ كانت تلبس من الملابس ما يثير الدهشة.
وحينما أدرك فداحة ما أصابه من خلط، ارتسمت على وجهه ابتسامة ماكرة، وكأن فكرة جهنمية قد انبثقت في ذهنه. اقترب من تلك الفزاعة بخطوات متأنية، وبقلب مشغول بمكيدة ما، استغرق عدة دقائق في صمته، وعندما فرغ من تدبيره، ارتدى ثياب الفزاعة ووقف كأنه جزء من المكان.
أيقن الثعلب، بذكائه الفذ أنه لا بد له من الانتظار حتى تنبلج شمس الصباح، وأن هذا الانتظار قد يطول، ولكنه في يقينه أن ما سيناله من لذة تلك اللحظة يُعادل كل عناء. ظلّ واقفًا، ثابتًا كالجذع، متأهبًا كفارس في ميدان الوغى. ولما هبّت نسائم الفجر، لوّح بذراعيه الممزقتين، وبحركة ضئيلة ثبت قدميه بعناية.
ومع انقضاء بعض الوقت، وقد اكتست السماء بحلة رمادية، وبزغت خيوط الفجر من وراء التل، أقبل الغراب كالسهم الطائر إلى السور الخشبي المحاذي لحقل الذرة. ونظر بعينيه اللامعتين إلى الفزاعة، ثم أطلق صرخاته المدوية كالرعد:
“أيتها الفزاعة العتيقة، كيف تظنين أنك تخيفيني؟ فأنا طائر شجاع، عزيزٌ في عرين الشجعان، أراكِ بعيني الحادّة، فتنكشف لي الأسرار، فلا تسعي خداعي، فنهاية مَسعاك الفشل.”
ولما أتمّ نعيقه، انحنى لينقر كم المعطف الذي استقر عليه، وفجأة، قفز الثعلب، كالسهم الطائش، ونبح في صوتٍ مرتفع مرعب.
أصيب الغراب برعبٍ شديدٍ جعل جناحيه يرتعشان كأوراق الشجر في العاصفة، وكاد يسقط إلى الأرض كحبة مطر تتهاوى من السماء. لكنه، بفضل فطنته، أفلت في لمح البصر كالسهم، بينما كان الثعلب يتدحرج على الأرض ضاحكًا، وضحكاته تتردد كأصداء الفرح في الوادي، مُعلنة عن انتصاره في تلك اللعبة التي أعدها.
بالطبع، لم يُعر الغراب اهتمامًا للذي كان يختبئ داخل تلك الملابس الممزقة، بل ابتعد عن حقل الذرة بأقصى سرعة كما يفر الجبناء من صليل السيوف. لكن، وفي صباح اليوم التالي، رآه الثعلب جالسًا على غصن شجرة قريبة من الحقل، يتأمل الفزاعة التي تلوح بذراعيها في هبوب النسيم وكأنها تُحاكي طيفًا من أشباح الماضي. فأخذ يغني بصوت عالٍ وهو يمر بجوار الفزاعة، مختبئًا بين النبات كالصياد الماكر:
” أيتها الفزاعة العتيقة، كيف تظنين أنك تخيفيني؟ فأنا طائر شجاع، عزيزٌ في عرين الشجعان، أراكِ بعيني الحادّة، فتنكشف لي الأسرار، فلا تسعي خداعي، فنهاية مَسعاك الفشل.”
لكن الغراب، بذكائه، أدرك نغمة صوته، فاهتزت أجنحته في رفق مع نسيم الصباح، وطار إلى الأعالي دون أن يتفوه بنعيق واحد، فقد علم من كان وراء كل ذلك وفهم أيضا أنّه يجدر به ألا يجرب حظه مرة أخرى مع معشر الثعالب فلا أحقد أو أمكر منها.
وفي النهاية، قال الثعلب وهو عائدٍ إلى بيته محمل بضحكاته الساخرات: “أعتقد أن ذلك العجوز المتطفل سيتجنب التدخل في شؤوني بعد الآن!”