صخرة خبز الزنجبيل

على أعتاب غابة كثيفة تكتنفها أسرار مخيفة، كان هناك غلام صغير يُدعى هانس تعيش معه أخته الجميلة ليزبيث ذات الطلعة البهية. خطفت يد الموت والديهما مبكرا فتركاهما في ريعان شبابهما، وألقى الزمن بهما في كنف عمهما الذي عدهما خادمان له في شؤون المنزل، آملا أن يعفيه ذلك من مؤونة الخدم وأجرتهم لشح في طبعه. كان من أشد الناس بخلًا، لا يقدم لهما إلا نزراً يسيراً من الطعام، حتى بات الجوع يسكن لياليهما الطويلة، فيسهران على أصداء بطونهما الخاوية وأنّات الحرمان.

وفي ليلة من ليالي البؤس، حينما اشتد الجوع بهما نتيجة العمل المضني طوال النهار، همس هانس وهو في سريره المتواضع في زاوية الغرفة قائلاً: “يا ليزبيث، هلُّمي بنا ننهض ونذهب إلى الغابة. القمر يضيء الكون بنوره الفضي، وربما نجد بعض التوت يخفف من وطأة جوعنا. إنني حقًا لا أستطيع أن أغمض جفني من شدة الجوع، كأنّما نيران الجوع تأبى أن تخمد، وتظلّ تسعر في جوفي، تمنعني من الهجوع وتقطع عليّ سُبُل الرُقاد.”

خرج الاثنان من المنزل بحذر شديد، وتأكدا أن عمهما كان قد غطّ سلفا في سبات عميق، فانطلقا يعدوان في دروب الغابة المظلمة. على حين غرة، توقف هانس وجذب ليزبيث خلف شجرة كبيرة وهمس قائلاً: “انظري، هناك دخان يتصاعد من خلف تلك الصخرة الضخمة، لعله ينبئ بشيء غريب أو مغامرة جديدة.”

نظرت ليزبيث بتمعن، فرأت الدخان يتصاعد من فتحة صغيرة في الصخرة. تقدما بحذر شديد نحوها، ووقف هانس على أطراف أصابعه يستنشق الدخان ثم همس في أذن ليزبيث قائلاً: “إنه دخان غليون. هناك شخص ما يدخن داخل الصخرة.” ازداد فضولهما وتساؤلهما عن سر هذا الدخان الغامض ومن يكون هذا الشخص المختبئ داخل الصخرة.

قالت ليزبيث وهي تتسلل بالقرب من الصخرة، وتعتلي حجرًا صغيرًا لتستنشق الدخان المتصاعد: “لا تكن سخيفا. لا يمكن لأحد أن يعيش داخل صخرة. أليس كذلك؟”

أثار اكتشافها للدخان الصادر من الغليون فضولها بشدة، فاستبد بها الشغف والرغبة في التحقق من الأمر. قالت ليزبيث بحماسة متقدة: “يا هانس، ارفعني إليك، حتى أتمكن من النظر إلى الداخل، لعلّي أرى إنْ كان هناك من أحد.”

رغم تردد هانس وتساؤله عن مدى لياقة هذا الفعل الذي ظنه تطفلا على شؤون الغير، قالت له ليزبيث بجرأة: “الأمر هنا ليس كالتطفل على منزل. أَعِنِّي على النظر ولن تندم.” فاستجاب هانس، وتغلب على تحفظه بفضل فضوله المشترك، ورفعها ليكتشفا معًا ما وراء هذا السر الغامض.

أمسكت ليزبيث بحافة الفتحة في الصخرة بكلتا يديها، غير أن الحافة انهارت فجأة، وفقدت توازنها، فسقط كلاهما على فراش الطحلب الناعم. وعندما جلسا معًا، اكتشفت ليزبيث أنها تمسك بشيء طري بكلتا يديها.

قالت بدهشة: “إنه كعك!” ثم صححت بسرعة: “لا، إنه خبز الزنجبيل!” وقد كانت محقة، فالصخرة لم تكن حجرًا، بل كانت مصنوعة من خبز الزنجبيل.

غمرهما الفرح لاكتشافهما هذا السر الغريب، وتناسيا كلّ شيء عن الدخان وفضولهما. وبسرعة، أخذا يلتهمان قطعًا كبيرة من صخرة خبز الزنجبيل، مستمتعان بكل لحظة وبكلّ قضمة من هذا الاكتشاف لذيذ الطعم.

بيد أن هانس وليزبيث لم ينقادا إلى مطامع النفس، فقد اكتفيا بعد أن سَدَّا جوعهما، وعادا إلى مسكنهما، دون أن يلمسا من خبز الزنجبيل المزيد، أو أن يأخذا منه ما كان بإمكانه أن ينفعمها في سد رمقهما في اليوم الموالي.

عما قريبٍ، داهم النوم هانس وليزبيث تحت لحافهما الدافئ، ولولا أن كل واحدٍ منهما قد روى للآخر نفس الحكاية في صباح اليوم التالي، لظنّا أن ما حدث لم يكن سوى حلمٍ عابر، كأطياف الليل التي تختفي مع أولى خيوط الفجر.

وفي الليلة التالية، عندما عاد إليهما الجوع والعطش كما هو دأب الأيام، ارتفع القمر في السماء كنجمةٍ مرشدة، فتسلّلا مجددًا إلى أعماق الغابة. ولكن، في هذه المرة، لم يكن هناك دخان يرشدهما السبيل، وجرّبا الاقتراب من العديد من الصخور قبل أن يعثرا على خبز الزنجبيل. وقد كان الأمر غريبًا، إذ لم يكن الموقع الذي اخترقاه واضحًا، وكانت الصخور كثيفة حتى كادا يضلان دربهما.

وأخيرًا، صرخ هانس بفرحٍ عارم: “ها هو ذا، يا ليزبيث!” ورفع قطعةً كبيرةً من خبز الزنجبيل التي كسرها.

لكن، كما يحدث في الحكايات الخيالية، فتحت ليزبيث فجوةً واسعةً كانت كافية لمرورهما عبرها. 

 قالت ليزبيث، وهي تسترجع ما شاهداه من دخانٍ في الليلة السابقة:” ربما نجد مصدر الدخان الذي رأيناه البارحة.”

بينما كانا يتناولان طعامهما وهما يتسللان بخفةٍ بين الصخور، وصلا إلى غرفةٍ فسيحةٍ ومضيئة بنور القمر الخافت، كان فيها رجلٌ مسن غارق في سباتٍ عميق بجوار طاولة، كأنه قد نُزع من عالم اليقظة إلى عالم الأحلام. بدا لهما أن نظارته قد سقطت برفقٍ عن أنفه، ولاحظا أن عصاه ممدودة بجانب طاولةٍ على الأرض. وكانت نيران مصباحه قد خدمت، فأظهرت ظلالًا خافتة على الجدران.

نظر هانس وليزبيث إلى الرجل المسن ثم إلى خبز الزنجبيل الذي في يديهما، فقال هانس بصوتٍ ملؤه الأسى: “يا إلهي، إنه منزله!”

سألت ليزبيث بقلقٍ شديد، وهي تتطلع إلى خبز الزنجبيل في يديها: “لقد تناولنا منزل هذا الرجل! ماذا نفعل الآن؟”

قال هانس بحزمٍ: “الأفضل أن نوقظه ونبدي اعتذارنا. لعله سيسمح لنا أن نخبز بعضًا آخر ونصلح ما أفسدناه.”

أجابت ليزبيث بثقة وطمأنينة: “سأجمع ما تيسر من المكونات، بينما أشعل أنت المصباح. لعل الرجل يسامحنا عندما نوضح له أننا لم نكن نعلم أنه منزله.” لكن، على عكس ما توقعا، استيقظ الرجل المسن مبتسمًا، وسأل بلطف وعطف: “هل استمتعتما بوجبة خبز الزنجبيل؟” أجابه هانس بأسفٍ صادق وخجل: “إننا آسفان جدًا، لم نكن نعلم أن هناك من يسكن داخل الصخرة عندما تناولنا الخبز.” أضافت ليزبيث بإصرار: “سوف نخبز لك بعضًا آخر ونصلح الفوضى التي أحدثناها.”

قال الرجل المسن بابتسامة هادئة، تشعّ بالرضا والكرم: “ادخلا المطبخ من هذا الباب. يمكنكما أن تخبزا ما يحلو لكما.” فاندفع هانس وليزبيث إلى المطبخ بفرح غامر، وتفاجآ بعالمٍ من المفاجآت. كان المطبخ مبهجًا برفوفه المليئة بالدقيق والزبدة والبيض والحليب والكريمة واللحوم والفطائر والبسكويت والحلويات، لكن خبز الزنجبيل كان مفقودًا بين كل تلك الكنوز. قالت ليزبيث بعزمٍ ثابت: “لنعد الإفطار أولاً للرجل، فهو بلا شك جائع، والشمس قد بدأت تتسلل عبر الأفق. انظر إلى الخارج من النافذة.”

تفاجأ هانس لما رأى وجود نافذة في المطبخ، وعندما نظر إلى الخارج، أدرك أن ما ظنه صخرةً كان في الواقع منزلًا أبيضَ بديعًا، مزينًا بمصاريع خضراء مزينة بألوان الزهور.

انغمس هانس وليزبيث في شغف الطهي حتى بات شغفهما يتجاوز حدود الكلمات، وكأن ذكريات منزلهما القديم وأهوال معاناتهما مع العم القاسي قد تلاشت كسراب في صحراء النسيان. ولما أتمّا إعداد الإفطار، وضعاه بفخرٍ وسرور على الطاولة بجانب الرجل المسن، كتحفة فنية تُعرض بكلّ فخر وتقدير.

قالت ليزبيث بلهجةٍ حانية: “ظننت أنك ستستمتع بإفطارك، وبعد أن تفرغ، سنصنع خبز الزنجبيل ونصلح منزلك.”

ابتسم الرجل المسن وقال بلطفٍ: “يمكنكما القيام بذلك بعد الإفطار، إذا أحببتما. ولكن قبل كل شيء، يجب أن تشاركانني طعامي.”

كان الإفطار لذيذًا! على الرغم من أنّ ليزبيث لم تطهو سوى اللحم المقدد والبيض فقط، إلا أن المائدة بدت وكأنها قد احتضنت كل ما يشبع الروح والجسد.

بينما كانوا يتلذذون بطعامهم، دعونا نتركهم للحظة وننظر في حال العم البخيل، الذي أخذ يبحث عن الطفلان منذ بزوغ الفجر دون أن يجد لهما أثراً. لنتفحّص ما كان يجري في تلك اللحظات.

لقد كانت الأرض مشبعةً برطوبة الصباح، فتتبع العم آثار الأقدام التي امتدت من عتبة الباب إلى الطريق، ثم إلى المسار المتاهيّ الذي يغوص في أعماق الغابة الكثيفة. لكن، على الرغم من ذلك، لم تكن الأوراق الرقيقة والطحالب المخملية تكشف له ببساطة عن وجهة الأطفال.

وعندما اجتاحته الظنون بأنهما قد لجئا إلى ظلام الغابة الدامس، تسارع في خطواته، مناديًا اسميهما بصوتٍ مدويّ يشق سكون الصباح الهادئ. وحين اقترب من صخرة خبز الزنجبيل، سرت قشعريرة الخوف في جسدي الطفلين لدى سماعهما لصوته. قال هانس، وقد اختلط القلق بصوته: “إنه العم. لن يرحمنا بسبب تقصيرنا في إنجاز العمل.”

قال الرجل المسن بصوتٍ هادئ، بينما كان الطفلان ينهضان من الطاولة ترتعد فرائصهما: “اجلسا في مكانكما.” ثم أخذ غليونه وجلس تحت فتحة صغيرة تشبه نافذةً ضيقة، وبدأ يدخن بسلام، مخلفًا وراءه سحبًا من الدخان تخرج عبر المدخنة.

سرعان ما سمع الطفلان صوت العم وهو يتسلق من الخارج، ففهما أنه قد رصد الدخان تمامًا كما رصداه في الليلة الماضية، وعرفا أنه بصدد البحث عن مصدره.

ثم دوى صوته وهو يسقط، تمامًا كما فعلت ليزبيث عندما كسرت خبز الزنجبيل بيديها. شعرا بأن العم قد اكتشف أن الصخرة هي خبز في الحقيقة، حيث خيّم صمتٌ عميق لبضع دقائق.

لم يُسمع شيء بعد ذلك لفترة طويلة، ثم صدر صوت تكسيرٍ متكرر لقطعٍ كبيرة. وعندما صعد هانس وليزبيث كما طلب منهما الرجل المسن، ونظرا من الفتحة، أدركا عمّهما وهو يحمل مجرفة وعربة يد.

كان العم يكسر قطعًا كبيرة من خبز الزنجبيل ويملأ العربة بكل سرعة، وكأنما يطارد كنزًا ضائعًا. لكن عندما امتلأت العربة، عجز عن تحريكها، إذ تحول خبز الزنجبيل إلى كتلٍ من الحجر الثقيل، وكأنها قد سحبت كل قوتها وحركتها بقدرة سحرية.

أشار الرجل المسن إليهما بإشارةٍ تطلب منهما الصمت، ثم فتح بابًا لم يلفت نظرهما من قبل، وخرج من المنزل بخطواتٍ خفيفة وهادئة.

لم يكن الطفلان على دراية تامة بما كان يفعله العم البخيل، ولكنهما سرعان ما اكتشفا أنّ ظنهما أنه فقير كان محض خيال. فقد كان العم قد جمع كل الفضة والذهب التي خلفها والديهما، ودفنها في قبو منزله تحت الصخور. هذا ما أخبرهما به الرجل المسن إثر ذلك. 

ولكن سرعان ما اختفى العم البخيل كأنما ابتلعته الأرض، ولم يُرَ له إثر بعد ذلك. أما الرجل المسن، الذي اتضح فيما بعد أنه كان ساحرًا، فقد دلّهما على وجهتهما وشرح لهما كيفية التصرف بثروتهما الجديدة. وهكذا، عاش هانس وليزبيث في سعادةٍ أبدية.

طبعًا، لم ينسَ هانس وليزبيث أبداً صخرة خبز الزنجبيل أو الرجل الطيب المسن الذي أشردهما إلى هذا الدرب الثمين. كان من الواضح أنّ الساحر، الذي جاء من عالم السحر الغامض، لن يظهر لهما مجددًا. فالجنيات والسحرة، بقدراتهم التي تتجاوز حدود الإدراك، يتلاشى وجودهم كما يذوب الضباب تحت إشراق الشمس، ويغيبون بأسرار لا ولن تُكشف.

قال هانس ذات يوم، وهو يتطلع إلى الماضي بعينين مملوءتين بالحنين: “جاءتنا هذه النعمة الطيبة لأننا سعينا بصدق إلى معاملة الرجل المسن بلطف. أنا على يقين بذلك.”

أجابت ليزبيث بتأملٍ عميق، وبصوتٍ يفيض بالحكمة: “نعم، ولأننا أرْدَنا إصلاح ما أفسدناه، فقد أدرك أن نيّتنا كانت صالحة. ومع ذلك، فإنّي لا أتناول خبز الزنجبيل إلا وأستحضر في كلّ مرة تلك اللحظات أمام عيني.”

أجاب هانس: “وأنا مثلك، أُشاطرُك هذا الشعور.”


Downloads