شجرة السيوف

في سالف العصر والأوان، وفي مملكة عامرة بالخير والجمال، عاش ملكٌ عظيم الشأن، جليل القدر، تحيط به هالة من المجد والسلطان. كانت مملكته واسعة الأرجاء، تمتد من سهول خضراء إلى جبال شاهقة، يعمها الرخاء والازدهار.

وفي يومٍ مشهود، أنجبت زوجته الملكة أميرةً فائقة الحسن والجمال، كأنها قطعة من القمر تجلت في سماء صافية. فرح الملك فرحًا عظيمًا، وأقام وليمةً ضخمة، دعا إليها الخاصة والعامة، وتوافد الناس من كل حدب وصوب. وكان من بين المدعوين ساحرةٌ شريرة، عجوزٌ خبيثة الطباع، تخفي وراء ابتسامتها المصطنعة قلبًا مليئًا بالحقد والغل.

ولكن، يا لسوء الطالع! فقد دُعيت الساحرة للحضور في قاعة الرعية العامرة بالضيوف، ولم تُدعَ إلى قاعة الأسرة الملكية ونبلاء المملكة المترفة. فاستشاطت غضبًا، واشتعلت نار الحقد في قلبها المظلم كبركان ثائر. وفي لحظة شؤم، ألقت تعويذةً سحرية على الأميرة الوليدة عندما دعاهم الملك إلى رؤية ابنته ووريثة عرشه. فأطلقت سحرها على المولودة الذي أصابها كسهم مسموم أطلقته يد الغدر في جنح الظلام.

مرت السنين، وكبرت الأميرة، تتفتح كزهرة نادرة في بستان القصر. وفي ذات صباح مشمس، دخل عليها أبوها الملك وأمها الملكة، وقلباهما يخفق بالحب والحنان. ولكن، يا للهول والفزع! وجدا في سريرها الحريري بقرةً مرقطة!

أرسل الملك في طلب الساحرة العجوز على الفور، بوجه شاحب وقلب يعتصره الألم، عالمًا أن ما أصاب ابنته الغالية لا بد أن يكون تعويذة أو لعنة ما وَمَنْ غير الساحرة يقدر على مثل هذا الصنيع. لكن الساحرة، بمكرها وخبثها، أرسلت رسالة مختومة بشمع أسود، تخبرهم فيها أن الشيء الوحيد الذي سيعيد الأميرة إلى هيئتها الأصلية هو كمثرى سحرية من الشجرة الغامضة التي تنمو بجوار جبل الجليد السحيق، في أقصى حدود المملكة.

كان الجميع في أرجاء المملكة يعلمون، وكأنها حكاية تتناقلها الألسن في الليالي الباردة، أن هذا الجبل الجليدي الشاهق يسيطر عليه قزمٌ مخيف ذو ثلاثة رؤوس، عيونه الستة تتوهج كالجمر في الظلام. وأنّ الشجرة التي بجواره، والتي تبدو للناظر من بعيد كأنها تاج من الفضة على رأس الجبل، هي في الحقيقة مدخنة بيته الغريب الذي يقع في أعماق الجبل المتجمدة.

ولكن فضلا عن كل هذا، فإنّ الشجرة نفسها كانت محاطة بهالة من الرعب والخطر، إذ تتحول جميع فروعها وأغصانها إلى سيوف حادة كحد الموت عند أدنى لمسة، كأنها أنياب وحش أسطوري.

لم يجد الملك، وقد أثقل الحزن قلبه وغشى الهم عينيه، أي وسيلة سوى تقديم مكافأة سخية لمن يجلب الكمثرى السحرية. فأعلن في كل أرجاء المملكة، عبر حاجبه، أنّ أي شخص يستطيع الحصول على الكمثرى المنشودة، سواء أكان غنيًا أم فقيرًا، نبيلًا أم وضيعًا، ومهما كان وضعه في سلم المجتمع، ستكون الأميرة زوجته الشرعية، وسيحصل على صندوقٍ كبير من الذهب الخالص يكفيه ويكفي أحفاده.

مر الوقت ثقيلًا كالرصاص، والأمل يتضاءل في قلوب الناس كشمعة توشك على الانطفاء. فمن ذا الذي سيخاطر بحياته الثمينة في سبيل الحصول على بقرة مرقطة كعروس له، حتى وإن كانت في الأصل أميرة جميلة؟ كان الناس يهمسون في الأسواق والحانات أن الأميرة لن تعود إلى طبيعتها البشرية مرة أخرى، حتى لو تناولت الكمثرى السحرية. فمن الذي سيرغب في الزواج من بقرة، حتى وإن كانت ملكية الأصل والنسب؟

وفي يومٍ من الأيام، حين كادت الشمس تغرب وتلون السماء بألوان الأمل الأخيرة، ظهر شابٌ فقير، قوي البنية، نقي السريرة، عيناه تشعان بالعزم والإصرار. جاء إلى القصر، ووقف أمام الملك في قاعة العرش المهيبة، وأخبره بصوت ثابت أنه سيحاول الحصول على الكمثرى السحرية. ولكنه طلب شيئًا غريبًا أدهش الجميع: أن يأخذ البقرة المرقطة معه قبل أن يذهب لتسلق الجبل الجليدي المخيف.

قال الشاب بصوتٍ هادئ، يحمل نبرة الحكمة رغم صغر سنه: “يا مولاي العظيم، إن فشلتُ في مهمتي الصعبة، وهو أمر وارد في مثل هذه المغامرة الخطرة، أريد أن أترك لوالدتي المسكينة شيئًا ينفعها في حياتها البائسة. والبقرة، حتى وإن كانت في الأصل أميرة، ستكون مفيدة لها وستنفعها على أي حال.”

عرض عليه الملك، بكرم الملوك وسخائهم، المال والذهب والجواهر، ولكن الشاب الفقير، في حكمة أذهلت الجميع، رفض كل العروض السخية وأصر على طلبه الغريب: البقرة المرقطة وحسب.

وافق الملك على طلب الشاب الغريب، فلم يكن له من خيار، وقلبه يعتصره الألم لفراق ابنته، حتى في هيئتها الحيوانية. أخذوا البقرة إلى حظيرة الفلاح الفقير، في مشهد غريب أثار دهشة كل من رآه. كانت البقرة ترتدي غطاءً مخمليًا مزينًا بالذهب والجواهر، كأنها عروسٌ في ليلة زفافها، إلا أنها عروس من نوع غريب لم تره المملكة من قبل.

تبع الملك والملكة البقرة إلى الحظيرة، كأنهما يودعان ابنتهما في رحلة طويلة. حاولت الملكة، بقلبها الحنون الذي يفيض بالعاطفة، أن تجعل الشاب يأخذ سريرًا مريحًا وثيرًا لتنام عليه ابنتها، حتى في هيئتها الحيوانية. لكن الشاب، رفض العرض بأدب جم قائلًا: “لا، يا صاحبة الجلالة. إنها الآن بقرة، مهما كان أصلها النبيل، ويجب أن تنام في الحظيرة مثل باقي الأبقار. فالحياة القاسية قد تكون الدواء الناجع لكسر التعويذة.”

طوال الوقت، كان الملك والملكة، في حبهما الجارف لابنتهما، يطعمان البقرة ألذ الفاكهة وأجود أنواع الطعام، كأنها لا تزال الأميرة المدللة. لكن الشاب الحكيم، الذي سمع أن الكمثرى التي ستأكلها البقرة لتعود إلى طبيعتها مرة أخرى مرة المذاق وكريهة الطعم، أرادها أن تعتاد على تناول أي طعام يقدم لها، مهما كان بسيطًا أو مرًا.

وهكذا، بدأ الفلاح الشجاع رحلته الخطرة، متسلقًا الجبل الجليدي بعزيمةٍ لا تلين وإصرار لا يعرف اليأس. كان المشهد مهيبًا ومخيفًا في آن واحد: شاب وحيد يواجه جبلًا شاهقًا من الجليد الأزرق، يلمع تحت أشعة الشمس كأنه قصر من الماس.

كان يتقدم كل يوم خطوة واحدة فقط، صابرًا محتسبًا، لمدة شهرٍ كامل. في بعض الأحيان، كلما صعد عاليًا بمشقة وعناء، كان ينزلق إلى الوراء على الجليد الأملس، كأن الجبل نفسه كائن حي يحاول صده عن هدفه النبيل.

خلال تلك الفترة العصيبة، كانت البقرة المسكينة لا تأكل أي شيء مما يوضع أمامها من طعام شهي، وكأنها تشارك الشاب معاناته وتصومُ تضامنًا معه. كانت تزداد نحافةً يومًا بعد يوم، حتى صارت كظلها، مما أثار قلق الملك والملكة وحزنهما العميق.

وفي يوم من الأيام، وكان الفلاح الفقير قد بلغ به التعب مبلغه، وكاد اليأس يتسلل إلى قلبه كالسم البطيء، أحس فجأة بتغير غريب تحت قدميه. شعر أن الجليد أصبح ناعمًا وطريًا، وأصبحت خطواته ثابتة كأنه يمشي على أرض صلبة. نظر الشاب إلى قدميه، عيناه تتسعان دهشةً، ليجد منظرًا غريبًا يفوق الخيال: جنيتان صغيرتان، لا يتجاوز طولهما طول إصبعه، تقفان على قدميه بثبات، تلوحان بعصيهما السحرية الدقيقة.

وفجأة، كأنه يركب ريحًا عاتية أو يمتطي صهوة حصان أسطوري، وجد نفسه يصعد الجبل بسرعة هائلة تخطف الأنفاس. الثلوج تتطاير من حوله، والرياح تصفر في أذنيه، حتى وجد نفسه، في لمح البصر، واقفًا أمام الشجرة السحرية المرعبة، التي طالما سمع عنها في الحكايات والأساطير.

أخبرته الجنيتان، بصوتهما الرقيق: “نحن عاجزتان عن المساعدة أكثر من هذا، أيها الشاب الشجاع. لكن اسمع نصيحتنا: إذا استطعت الحصول على الحزام الذي يرتديه القزم ذو الرؤوس الثلاثة، ستتمكن من الحصول على الكمثرى السحرية. لكن احذر، فنحن لا نستطيع إلقاء أي تعويذة على القزم لمساعدتك.”

اختفت الجنيتان في غمضة عين، كأنهما بخار تبدد في الهواء البارد، تاركتين الشاب وحيدًا أمام التحدي الأكبر. شعر بالإحباط يتسلل إلى قلبه كالصقيع، فهو الآن محاط بمخاطر الانزلاق على الجليد القاتل، وأمامه الشجرة المريعة، التي ستحصد روحه في أي لحظة إذا انزلق واصطدم بها.

وبينما هو غارق في التفكير في مصيره المحتوم، حدث أمر لم يكن في الحسبان. انفتحت الشجرة فجأة، كأنها باب سري في قصر مسحور، وخرج منها القزم ذو الرؤوس الثلاثة، مخلوق مهيب ومخيف في آن واحد في غرور وثقة زائدة، ولم ينظر لا إلى أعلى ولا إلى أسفل، ولا إلى يمين أو يسار. مشى بخطوات واثقة إلى أسفل الجبل، تاركًا الباب المؤدي إلى الشجرة مفتوحا خلفه. انتهز الشاب هذه الفرصة الذهبية التي قد لا تتكرر. فجلس على الجليد وزحف بحذر شديد، قلبه يخفق بشدة كطبل حرب، حتى وصل إلى داخل الشجرة.

وعندما عبر الباب، هوى عبر ظلام دامس كأنه يسقط في بئر بلا قاع. ثم وجد نفسه في غرفة كبيرة غريبة الشكل والمحتويات. في إحدى زواياها سرير ضخم يكفي لنوم عمالقة ثلاثة، وفي زاوية أخرى موقد كبير تتراقص فيه ألسنة اللهب بألوان غريبة. وفي الزاوية الثالثة كرسي وطاولة كبيران، منحوتان من جذوع أشجار عملاقة، وفي الزاوية الرابعة – وهنا كمن سر النجاة – سيف كبير وطويل جدًا، يمكن للفلاح أن يختبئ خلفه بسهولة.

كان من حسن حظ الشاب أن هذا السيف الكبير موجود، فالقزم دخل في تلك اللحظة بخطوات ثقيلة تهز أركان المكان. فتش القزم بعيونه الستة في أنحاء الغرفة، كل رأس ينظر في اتجاه، وقال بصوت كالرعد: “أشم رائحة بشر! لا يمكنك الهروب مني، أيها الدخيل. أخرج من حيث تختبئ، وواجه مصيرك!”

كان الشاب يرتجف من الخوف لدرجة أنّ أسنانه كانت تصطك ببعضها، وجسده يرتعش كورقة في مهب الريح. وفي لحظة من الارتباك والذعر، سقط السيف الكبير أمام القزم الذي قفز بخفة تناقض حجمه الضخم، محاولًا الإمساك بالسيف.

ولكن القدر، في سخريته العجيبة، كان له رأي آخر. فبالرغم من أن للقزم ثلاثة رؤوس ضخمة، إلا أن له قدمين فقط. وفي قفزته المتهورة، تعثر بالسيف الطويل وسقط على الأرض بدوي هائل، كأن جبلًا صغيرًا قد انهار. كانت رؤوسه الثلاثة ثقيلة للغاية، مما جعل محاولاته للنهوض بطيئة ومضحكة، كأنه سلحفاة عملاقة انقلبت على ظهرها.

وأثناء محاولات القزم المتعثرة للوقوف، حدث أمر غير متوقع: سقط الحزام السحري من على خصره، متدحرجًا على أرض الغرفة كأفعى فضية تحاول الهرب.

ما أن رأى الشاب الحزام على الأرض، حتى أدرك أنه أمام لحظة حاسمة. فكر بسرعة البرق: إنه في خطر محدق لا محالة، والموت يتربص به على بعد خطوات. قرر أن يخاطر بكل ما لديه، فإما نصر مؤزر وإما موت شريف. وفي حركة جريئة، ركض نحو القزم المتعثر وسحب الحزام من تحته بكلتا يديه، مستجمعًا كل ما أوتي من قوة.

تدحرج القزم بعيدًا، يصرخ ويزمجر كوحش جريح، بينما وضع الشاب الحزام حول خصره بسرعة، قلبه يخفق بشدة، والعرق البارد يتصبب من جبينه.

وهنا حدثت المعجزة التي طالما حلم بها الشاب في أحلام يقظته. فور ارتدائه الحزام السحري، شعر بقوة خارقة تسري في عروقه كالنار، حتى إن السيف الكبير الذي كان على الأرض، والذي كان يبدو ثقيلًا كجلمود ضخم، أصبح في يده خفيفًا كأنه مصنوع من ريش الطيور.

لما رأى القزم الحزام حول خصر الشاب والسيف في يده، صاح بصوت مليء بالخوف والهزيمة: “قوتي قد زالت! أنا الآن بلا حول ولا قوة!” وحاول الزحف بعيدًا، كحيوان جريح يبحث عن ملاذ آمن.

قال الشاب، وقد امتلأ قلبه بالشجاعة والثقة: “أخبرني كيف أحصل على الكمثرى السحرية وسأعفو عنك. فأنا لست هنا لإيذائك، بل لإنقاذ أميرة مسكينة من تعويذة شريرة.”

تمكن القزم من الوقوف على قدميه بصعوبة بالغة، لكنه لم يعد ذلك المخلوق القوي المخيف الذي كان يرعب الجميع. بدا الآن كعجوز منهك القوى، ثقيل الحركة. قال للشاب بصوت مهزوم: “اتبعني، وسأريك الطريق إلى ما تبحث عنه.”

خرج القزم من باب الشجرة الذي كان لا يزال مفتوحًا، والشاب يتبعه بحذر، يده على مقبض السيف، مستعدًا لأي خدعة أو هجوم مفاجئ.

كانت الشجرة في الخارج مليئة بالسيوف الحادة التي تلمع تحت أشعة الشمس كآلاف المرايا الصغيرة. وبمجرد أن انزلق الشاب من الباب، ظهرت السيوف فجأة، كأنها تستيقظ من سبات عميق، وحذرت القزم قبل أن يدخل أن هناك بعض البشر كانوا قريبين.

قال القزم للشاب، بصوت مليء بالاستسلام والحكمة المريرة: “إذا وعدتني بأن تفعل ما أطلبه منك بعد أن تحصل على الكمثرى، سأخبرك بسر الحصول عليها. وعلى كل حال، لن يضر أحدًا أن أُمنح رغبتي الأخيرة، فقد خسرت كل شيء الآن.”

وعد الشاب القزم بأن يفعل ما يطلبه منه، شرط ألا يمثل ذلك أذى لأحد. فقال القزم، وعيناه تلمعان بدموع غريبة: “يجب أن تضرب تلك السيوف التي بالشجرة بقوة حتى يتطاير الشرار، فتسقط الكمثرى المعلقة بين السيوف على الأرض. بعد ذلك، ستحترق الشجرة وتزول معها آخر آثار سحري في هذا العالم. ستزول قوتي السحرية إلى الأبد، لذا أطلب منك أن تضربني بالسيف على رأسي، وهذا سيحولني إلى شيء لن يؤذي أحدًا أبدًا.”

قال الشاب، وقد امتلأ قلبه بمزيج من الشفقة والحذر: “سأفعل ما طلبت، ولكن إن كان هذا فخًا، فاعلم أن لدي الآن من القوة ما يكفي لهزيمتك مرة أخرى.”

بدأ الشاب في ضرب السيوف على الشجرة بقوة وإصرار. كان المشهد مهيبًا ومخيفًا: الشرر يتطاير في كل اتجاه كأنه مطر من النجوم، والكمثرى الذهبية تتساقط واحدة تلو الأخرى، كأنها دموع الشجرة نفسها. وفجأة، كما تندلع النيران في غابة جافة، بدأت الشجرة تحترق بلهب أزرق غريب، كأنه نار من عالم آخر.

حافظ الشاب على السيف في قبضته، عيناه تجوبان المكان بحذر، وبحث عن أكبر ثمرات الكمثرى وأجملها. التقطها بعناية ووضعها في جيبه، شاعرًا بدفئها الغريب حتى من خلال قماش ملابسه. وحين عزم على الرحيل، خاطبه القزم الغريب بصوت كالهمس: “أيها الفارس النبيل، لا تنس عهدك. فلا خوف عليك، ولن تؤذيني الضربة.”

رفع الشاب سيفه اللامع كشعاع الشمس، وهوى به على رأس القزم بقوة عاتية، حتى إن السيف انفلت من قبضته كالبرق الخاطف، ليرتطم بالجبل الجليدي في مشهد مهيب. وإذا بالجليد يتصدع بصوت كالرعد القاصف، مُحدثاً ضجيجاً أفزع الشاب في البداية.

وما هي إلا لحظات حتى تبدل المشهد تبدلاً عجيباً! ففي الموضع الذي كان يقف فيه القزم، ظهرت شجرة باسقة تتدلى منها ثمار الكمثرى الذهبية كأنها جواهر متلألئة. وتحول الجبل الجليدي إلى مرج أخضر يانع، مكسو بالأعشاب الناعمة كأنعم ما يكون الحرير.

هرول الشاب إلى كوخه المتواضع بقلب يخفق، ودلف إلى الحظيرة حيث كانت تقف بقرته المرقطة، وقد بلغ بها الجوع مبلغاً عظيماً. وما إن قدم لها الكمثرى حتى التهمتها بنهم شديد، ظانةً أنها حلوة المذاق. لكن، يا لخيبة الظن! فقد كانت الثمار مرة كالعلقم، بعيدة كل البعد عن الحلاوة المتوقعة. ولولا أن البقرة كانت على شفا الهلاك من الجوع، لما استساغت تلك الفاكهة البغيضة.

وفجأة، كأنما بلمح البصر، وجدت الأميرة الحسناء نفسها في ذلك المكان الغريب. أخذت تجيل بصرها في الحظيرة بدهشة بالغة، وهتفت بصوت مليء بالاستنكار: “أين أنا؟ وكيف أتيت إلى هذا المكان القذر؟ ومن هذا الفلاح الحقير؟ أعدني إلى قصري فوراً، وإلا نال والدي الملك منك أشد العقاب!” 

لم يتردد الشاب لحظة، بل حملها إلى القصر الملكي الشامخ. وعندما رأى الملك والملكة ابنتهما الغالية في هيئتها البشرية مرة أخرى، خرّا راكعين تحت أقدام الشاب، يغمرانه بفيض الشكر والامتنان.

أما الأميرة، فقد وقفت حائرة لا تفقه ما يجري، وصاحت مستنكرة: “ما هذا المشهد المهين؟ لماذا تركعان أمام هذا الفلاح الوضيع؟ أليس الأجدر به أن يركع أمامكما؟ أنتما ملكا هذه الأرض وسادتها، وهو مجرد فلاح من عامة الرعية”!

قبل أن يشرع الملك في سرد القصة لابنته، بادر الشاب قائلاً بحكمة وإباء: “لقد أعدت إليكما ابنتكما، أيها الملك الجليل. لكن اعلما أنني لا أستطيع الزواج من أميرة ترى في نفسها الرفعة والعلو عليّ. هبوني الذهب الموعود، ودعوني أعود إلى كوخي المتواضع. “

كان الشاب في غاية الحكمة والفطنة، إذ أدرك أن الفلاح البسيط والأميرة المتعالية لا يمكن أن يجتمعا في سعادة ووئام، وأن الفتاة الريفية هي الأنسب له زوجة ورفيقة حياة.

غمر الأسف قلب الأميرة حين علمت أن هذا الشاب الذي احتقرته هو منقذها من محنتها. وعندما بلغها نبأ زواجه، أرسلت إلى عروسه صندوقاً ضخماً مليئا بالكتان الناعم والفضة البراقة، فذاع صيت هذه الهدية السخية في أرجاء المملكة، وأثارت حسد الفلاحين وإعجابهم في نفس الوقت.

ومنذ ذلك اليوم، لم يسمع أحد عن القزم الغريب. وظل الفلاحون وحدهم يعرفون سر شجرة الكمثرى التي تنتصب على جانب الجبل. وهكذا، طويت صفحة من صفحات الأساطير، لتبقى محفورة في ذاكرة الزمان، يتناقلها الرواة جيلاً بعد جيل.


Downloads