في ليلةٍ ساحرة، حيث ترقص أشعة القمر الفضية على أوراق الأشجار المتلألئة بالندى، دبَّ الحسد كالسم في قلوب العفاريت والأقزام تجاه الجنيات الرقيقات. فقرروا، مدفوعين بغيرة عمياء تأكل قلوبهم، أن يسرقوا عصي الجنيات السحرية. كانوا يدركون، بالطبع، أن هذه المهمة ستكون في غاية الصعوبة، فالجنيات لا تغفو أعينهن أبداً في الليل، بل تظل يقظة كنجوم السماء. لذا، حاكوا خطة ماكرة لإخافتهن، على أمل أن يُسقطن عصيهن من الفزع، فيلتقطونها ويفرون بها كاللصوص في جنح الظلام.
كانت الجنيات تسكن في وادٍ أخضر جميلا، تغطيه سجادة من الطحالب الناعمة، وتشقه جداول المياه العذبة. اختبأ العفاريت والأقزام في مياه النهر الباردة، لا تظهر منهم سوى عيونهم اللامعة فوق سطح الماء. بدت العفاريت وكأنها ضفادع متربصة، عيونها تلمع بمكر في الظلام، بينما تنكر الأقزام على هيئة أوراق بنية تطفو بهدوء، تتمايل مع كل نسمة هواء تداعب سطح الماء.
همس أحد العفاريت بصوت خافت: “علينا الانتظار بصبر حتى تظهر جميع الجنيات. سيتحتم عليهن عبور هذا النهر للخروج من الوادي، وعندها سنقفز ونرش الماء على وجوههن. إنهن يكرهن البلل أكثر من كرههن للظلام، وسيسقطن عصيهن حتماً ليغطين وجوههن بأيديهن. وبعدها، ستكون المهمة سهلة كالتقاط الفواكه من الأرض.”
وما هي إلا لحظات حتى بدأت الجنيات في الظهور واحدة تلو الأخرى، أجنحتهن الشفافة ترفرف في النسيم العليل، تعكس ألوان قوس قزح في كل حركة. وعندما اجتمعن جميعاً، ظهرت الملكة في مركبتها المزينة بأزهار الياسمين البيضاء والفل العطري، تنشر عبيراً سحرياً في الهواء. بدأت الجنيات رحلتهن للخروج من الوادي، أقدامهن الصغيرة تلمس الأرض برفق كأنها تخشى إيذاء العشب الأخضر.
عندما وصلن إلى ضفة النهر المتلألئة، قفز العفاريت والأقزام من الماء كالسهام المنطلقة من أقواس خفية، يصرخون بأصوات مخيفة ويرشون الماء البارد على الجنيات المسكينات. ارتعدت الجنيات من المفاجأة والمياه الباردة، وبدأت أجسادهن الصغيرة ترتجف كأوراق الشجر إثر العواصف الهوجاء. وبفعل ذلك، أسقطن عصيهن الذهبية على الأرض، وغطين وجوههن بأيديهن الرقيقة، ثم فررن مذعورات، أجنحتهن ترفرف بسرعة جنونية.
خرج العفاريت والأقزام من الماء بسرعة البرق، أجسادهم تقطر ماءً وشراً. التقطوا العصي المتناثرة في كل مكان والتي كانت تشع بضوء ذهبي خافت، واختفوا في أعماق الغابة، ضحكاتهم الشريرة تتردد بين الأشجار. وبحلول الوقت الذي جففت فيه الجنيات عيونهن الدامعة ليستطعن الرؤية، كان المخادعون قد اختفوا في ظلمة الليل، تاركين وراءهم فقط صدى ضحكاتهم البعيدة.
صرخت الجنيات بأصوات حزينة كأنين الريح بين أغصان الأشجار العارية: “آه، ماذا سنفعل الآن؟ لقد سرقوا عصينا السحرية، وأصبحنا بلا قوة كأوراق الخريف في مهب الريح. من يدري ما الذي قد يفعله هؤلاء الأشرار بها! قد يحولون عالمنا الجميل إلى خراب!”
لكن الملكة، بحكمتها وهدوئها المعهود، هدأت من روعهن برفع عصاها السحرية التي تشع بنور أبيض دافئ. كانت قد سقطت في قاع مركبتها المزخرفة عندما أفلتتها، ولم يلحظها العفاريت والأقزام في غمرة انتصارهم الشرير.
قالت الملكة بصوت هادئ كهمس النسيم بين أوراق الزهور: “لا تقلقن يا صغيراتي الحبيبات. سيتوسلون إلينا قريباً لاسترداد العصي، فأنا أنوي أن أجعل حياتهم صعبة للغاية، كمن يحاول تسلق جبل من الزجاج. انتظرن هنا،” أمرت الجنيات بالانتظار، ثم انطلقت بمركبتها في الاتجاه الذي سلكه العفاريت والأقزام، تاركة وراءها أثراً من غبار ذهبي يتلألأ في الهواء.
في الأثناء، توغل العفاريت والأقزام في أعماق الغابة، يتعثرون بين الجذور المتشابكة والأغصان المتدلية، حتى وجدوا فسحة خالية من الأشجار، ضوء القمر يغمرها بنوره الفضي. توقفوا عن الجري، أنفاسهم تتصاعد كسحب صغيرة في الهواء البارد. قالوا بفخر واعتزاز، وقد لمعت عيونهم بالطمع: “والآن، سنحول كل شيء هنا ونصنع مكاناً يليق بنا، قصراً يليق بمكانتنا الجديدة!”
لمس أحدهم شجرة عتيقة بإحدى العصي السحرية المسروقة، فظهر منزل كبير من العدم، جدرانه من الحجر الرمادي وسقفه من القرميد الأحمر. لكن الآخرين لم يرغبوا في منزل صغير، فقد كانت لديهم أحلام أكبر وأكثر جنوناً.
ثم قام أحد العفاريت، بعينين تلمعان بالشر، بتحويل صخرة ضخمة إلى بركة مياه زرقاء تتلألأ تحت ضوء القمر. صاح الأقزام بغضب، مدعين أن تلك الصخرة كانت واحدة من أبوابهم السرية. وهكذا، اندلع شجار عنيف بينهم، كل منهم يضرب الآخر بالعصي السحرية المسروقة، وكل من يُلمس بعصا يتحول في لحظة إلى تمثال حجري، وجهه متجمد في تعبير من الرعب والدهشة.
فجأة، بدأت العصي تحرق أيدي من يحملها، كأنها تنتقم لسرقتها من أصحابها الشرعيين. ألقاها العفاريت والأقزام على الأرض بصرخات ألم، لكن المفاجأة كانت أكبر. إذ تحولت العصي إلى ثعابين من نار، عيونها كالجمر المتوهج، وبدأت تطارد الجميع. من لم يتحول إلى حجر كان يركض في كل الاتجاهات، يحاول الهروب من العصي النارية التي كانت تتلوى وتنقضّ عليهم كالصواعق المرسلة.
وسط هذا المشهد الفوضوي، ظهرت ملكة الجنيات فجأة، متوهجة بنور سماوي هادئ. عندما رآها العفاريت والأقزام، ركضوا نحوها كأطفال خائفين، يتوسلون إليها أن تأخذ العصي السحرية بعيداً. دموعهم تنهمر على وجوههم القبيحة، وأصواتهم ترتجف بالخوف والندم.
لكن الملكة، بحكمتها الأزلية، أخبرتهم بصوت هادئ كنسيم الصباح: “إذا أردتم التخلص من هذه العصي وإعادة رفاقكم إلى هيئتهم الطبيعية، عليكم الذهاب إلى الجنيات والاعتذار لهن بصدق، ثم الطلب منهن المجيء لاسترداد عصيهن. فكل عصا لا تستجيب إلا لصاحبتها من الجنيات.”
انطلق العفاريت والأقزام راكضين كالريح، أقدامهم تكاد لا تلامس الأرض من سرعتهم. وجدوا الجنيات وقد تجمعن حول بركة صغيرة، يحاولن تجفيف أجنحتهن المبتلة. اعتذر المخادعون بصوت خافت، معترفين بخطئهم في إخافة الجنيات ورش الماء على وجوههن الجميلة. ثم توسلوا إليهن أن يأتين لاسترداد العصي السحرية.
عندما وصلت الجنيات إلى حيث كانت الملكة تنتظر، كانت العصي قد هدأت وعادت إلى شكلها الأصلي، راقدة بهدوء على الأرض كأنها نائمة. اقتربت كل جنية برفق واستعادت عصاها، التي بدأت تتوهج بدفء في يد صاحبتها.
“هلا تفضلتن بإعادة رفاقنا الذين تحولوا إلى حجارة إلى حالتهم الطبيعية؟” سأل العفاريت والأقزام بتواضع لم تعهده الجنيات عليهم من قبل، أصواتهم ترتجف بالأمل والخوف. “والمنزل والبركة أيضاً،” أضافوا بسرعة. “لا نريد أن يبقى شيء يذكرنا بهذه العصي المرعبة.”
منحت الملكة كل طلباتهم إلا واحدة. قالت بصوت حازم كصوت الرعد الهادئ: “البركة يجب أن تبقى كما هي. ستكون تذكيراً دائماً بسوء فعلتكم. وإذا ما فكرتم يوماً في إزعاج الجنيات مرة أخرى، فإن مياه هذه البركة ستغلي وتفيض على صخوركم، وتغوص في الأرض لتحرقكم في جحوركم.”
فرّ العفاريت والأقزام مسرعين، أقدامهم تكاد لا تلمس الأرض من شدة الخوف، وهم يرددون وعوداً بألا يزعجوا الجنيات أبداً مرة أخرى. اختفوا في ظلمات الغابة، تاركين وراءهم صدى وعودهم يتردد بين الأشجار، بينما عادت الجنيات إلى واديهن الجميل، عصيهن تتوهج بنور سحري دافئ، يعيد للغابة سحرها وجمالها الأبدي.