مرت الساعات وغدا الطريق وعرًا؛ فالأحجار الصفراء لم تعد صفراء بعد، بل أصبحت عثرات وإن شئت قل فخاخ، ففي كل خطوة إما حجرٌ مكسور أو آخر مفقود. وكان توتو يقفز من مكان لآخر ليجتاز تلك الحفر، بينما كانت دوروثي تدور وتتهادى لتتفاداها. أما عن كيس القش المسكين الذي لا لب له ولا دين، فماضٍ كضربة السيف لا يعرف أين هو ذاهب أو كيف، وكل حفرة يلقاها ينزل إلى أقصاها، وكانت الفتاة تخرجه وتساعده على الوقوف ثانيةً فيضحك على ما هو فيه من همٍّ محزن، كما يقولون.
من الواضح أنه لا تحظى تلك المنطقة بالرعاية التي حظيت بها البلاد التي رأتها الفتاة في أول رحلتها، حيث البهاء والجمال، فالمزارع تتلألأ فيها المحاصيل كأنها الياقوت والمرجان، والطرق معبدة وممهدة كالجنان، عكس ما تراه الآن من خلاء ووحدة ووحشة تتراء للعيان.
أتت الظهيرة وحان وقت الغداء، وجلس الفريق على جانب الطريق بالقرب من جدول صغير، ومدت دوروثي يدها في سلتها لتخرج من الزاد الذي جمعته لتلك الرحلة الطويلة. مدت يدها بكسرة خبز لخيال الفزّاعة فقال: “لست جائعًا، أو بالأحرى أنا لا أجوع؛ فأنّى لهذا البطن المحشو بالقش أن يطلب الزاد؟ وأنّى لهذا الفم المرسوم أن يشتهي الطعام؟ وحتى إن ثقبتيه لآكل منه سوف يخرج القش ويخرب رأسي، فلا يبقى فيه لا عقل ولا قش.” وكانت الفتاة تأكل وهي تستمع وتهز رأسها لتلك الحفنة من القش التي تندب وتنوح.
وبعد أن سدت الفتاة رمقها بتلك اللقيمات طلب منها خيال الفزّاعة أن تحكي له عن نفسها وعن وطنها، فقصّت عليه ما حدث، وعن هذا الإعصار الذي نقلها من كانساس الباهتة الفاترة ذات اللون الرمادي الكئيب إلى بلاد أوز العجيبة.
استمع خيال الفزّاعة إلى ما قصته عليه الفتاة بعناية، وعلى ما يبدو أن رأسه الخاوي يدور فيه تساؤل، لله در من يعلم كيف أتى، وبالفعل سألها قائلًا: “لا أعلم لماذا تتركين هذه البلاد العجيبة وتذهبين إلى كانساس الرمادية هذه؟”
أجابته: “هذا لأنك بلا عقل. نحن معشر البشر من لحمٍ ودمٍ، وأهم ما نتصف به هو تعلقنا بالأوطان؛ فمهما صنعت بنا الأقدار، ومهما تجولنا ورأينا فلا ينصرف ذهننا أبدًا عن أوطاننا، ونظل متعلقين بهذا المكان الذي نشعر فيه بالأمان والطمأنينة حتى ولو كان رماديًا.”
تنهد خيال الفزّاعة وقال: “أنا آسف. بالطبع لا أقدر على فهم ما تقولين. لكن ما أعرفه هو أنه لو كان البشر رؤوسهم محشوة بالقش، لعاشوا في البلاد الجميلة والعجيبة وهجروا كانساس، وهذا من حسن حظ كانساس، أن للبشر عقول.”
قالت له الفتاة: “ألا نغتنم تلك الاستراحة وتحكي لنا قصة؟”
نظر إليها خيال الفزّاعة وعينيه تنطق بالعتاب وقال: “حياتي أقصر من أن يكون فيها ما يُمكن أن يُحكى؛ بالأمس صنع المزارع رأسي، واختار أن يهبني أذنين فرسمهما، وبعدما انتهى منهما قال له قزم كان يقف معه: هل تعجبك هذين الأذنين؟! إنهما ليستا متطابقتين.”
فرد عليه قائلًا: “وإن… أليست بشاكلة أذن؟ وهذا يكفي.”
وأكمل عمله وهو يقول: “الآن أمنحه عينين.” فرسم عيني اليمنى، وحالما انتهى انفتحت عيني على العالم فرأيته ورأيت هذا العالم المليء بالأشياء المثيرة للتأمل والفضول.
استمر المزارع وهو يقول: “لعلّي أجعل الأخرى أوسع قليلًا.” وما أن انتهى منها وجدت نفسي أبصر العالم بوضوح أكثر. وأخذ يكمل هيئتي فجعل لي أنفًا وفمًا، وكنت مستمتعًا وأنا أراه يمنحني ذراعين فساقين؛ وها قد اكتملت هيئتي كهيئة البشر، وشعرت حينها بفخر عظيم وكأني قد صرت رجلًا كأيٍ من الذين يطئون البسيطة.
ولعل صانعي قد أعجبته صنعته التي صنع فقال محدثًا نفسه وصاحبه: “ها هو الرجل الذي صنعت، وحارسي الذي عيّنت؛ من الآن لن يجرؤ غراب على وطئ هذه الأرض.” وتأبطني ونزل بي إلى الحقل وعلقني على خشبة ومشى هو وصاحبه، فوجدت نفسي وكأني مصلوب على هذه الأرض. وما كنت أظن أنني سوف أُترك هكذا، فحاولت أن أنزل وألحق بهما؛ لكن بلا جدوى، فقدمي لا تصل إلى الأرض.
ضاق صدري وشعرت بخذلان شديد؛ وما من ماضٍ لي حتى أتفكر فيه أو أتحسر عليه، وفي تلك اللحظات الموحشة، أتت بعض الغربان فلما رأتني خافت وطارت بعيدًا، فشعرت حينها أني موجود ولي تأثير في هذا العالم، لكن سرعان ما أتى غراب عجوز ليحطم هذا الأمل الذي ظهر ويطفئ هذا الشعاع الذي لاح؛ فوقف على كتفي وحدق في ساخرًا وهو يقول: “أيظن هذا المزارع الأبله أنه قادر على خداعي بلعبته الخرقاء هذه. ونزل إلى الأرض وأكل حتى اكتفى، ولما رأته باقي الغربان جاءت هي الأخرى ونزلت ترتع، غير آبه باللعبة المصلوبة.
اشتد حزني ولعل الغراب العجوز شعر بي، فنظر إلى وقال: “لا تحزن، لو كان لك عقل لصرت كواحدٍ من البشر ولربما صرت أفضل، العقل فقط هو ما يستحق أن يتمناه أي مخلوق، غرابًا كان أو إنسان.”
رحل الغراب الحكيم ومعه عشيرته وطال فكري؛ وتمنيت لو كانت لي القدرة في الحصول على عقلٍ حتى أتيتِ أنتِ وقمتِ بتخليصي. وأنا واثق فيكِ ولي أمل في أن يمنحني أوز العظيم عقلًا حال وصولنا إلى مدينة الزمرد.
قالت الفتاة مواسيةً له: “آمل أن يتحقق لك مطلبك، فأنا أرى حرصك عليه.” فرد قائلًا: “نعم، وأي حرص هو! فما من شيء أبغض من الغباء.” ناولته الفتاة السلة وقالت: “حسنًا، هيا لنكمل رحلتنا.”
الطريق الآن بلا أسوار وإنما تحفه الأشجار العالية الكثيفة من الجانبين؛ ومن كثافة تلك الأشجار جعلت الطريق وكأنه نفق؛ فلا يمكن لسالك هذا الطريق أن يرى حتى ضوء النهار. واصل فريق المغامرين الطامحين المسير ولم يتوقفوا، وفي لحظة من لحظات تجلّي كومة القش المتنقلة، ينطق بيانًا ويتحف السامع فيقول: من سلك هذا الطريق فلا بد أنه ينهيه، وطالما أن مدينة الزمرد في تلك الناحية التي نسير نحوها فلا بد أن نصل.” فقالت الفتاة وقد بُهتت من حكمته العظيمة: “وهل من أحدٍ لا يعرف ما تقول؟ وهل لأحدٍ أن ينكر ما تردده من بديهيات أيها الحكيم؟” فقال: “نعم، نعم. أعرف ذلك. إنا كان ما قلته يستلزم عقل أو حكمة لما وتفوهت به.”
دخل الليل وزادت العتمة، الظلام حالك والفتاة لا ترى أي شيء وصارت تتعثر، وقد لا يزعج هذا الظلام توتو؛ فالكلاب ترى بوضوح في الظلام، أما خيال الفزّاعة فقال: “نقطة جديدة في رصيد كومة القش؛ فأنا أستطيع الرؤية في الليل تمامًا كما في النهار.” فتعلقت الفتاة في ذراعه وهدأت نفسها قليلًا وقالت: “حسنًا، عليك أن تجد لنا بيتًا أو أي مكان نقضي فيه ساعات الليل الطويلة هذه، فلا يمكننا المسير وإكمال رحلتنا في هذا الظلام الحالك.”
لم تطل تلك اللحظات الموحشة حتى صاح خيال الفزّاعة وقال: “كوخ، أرى كوخًا صغيرًا هناك على اليمين، مبنيًا من جذوع الشجر. أنذهب صوبه؟” أجابته الطفلة: “بكل تأكيد، أنا متعبة جدًا، لنذهب إليه لعلّه يؤنس وحشتنا ونأخذ فيه قسطًا من الراحة، حتى تنقضي ساعات الليل الطوال.”
اقتادها خيال الفزّاعة وعبروا من بين الأشجار حتى وصلوا إلى الكوخ، دخلت الفتاة فوجدت سريرًا مصنوع من أوراق الشجر في إحدى الزوايا، وعلى الفور ذهبت واستلقت وغطت في نومها وإلى جانبها توتو، هو الآخر غطّ في النوم سريعًا، أما خيال الفزّاعة فوقف في الزاوية الأخرى لينتظر طلوع فجر يوم جديد.