إنه لأمر معلوم أنّ الجنيات والعفاريت لا يُمَثِّلون أبدا نموذجًا للصداقة؛ إذ يتسلّل إلى قلوب العفاريت شيء من الغيرة تجاه القوة الفائقة التي تمتلكها الجنيات فضلا عن جمالهن الذي يقابله قبح العفاريت. إذ أصبحوا يستمتعون الآن في تدبير المكائد لتلك الجنيات الصغيرات، مُدْفُوعِينَ بحقدٍ دفين.
في إحدى الليالي الحالكة، اكتشف العفاريت أنّ الجنيات قد خطّطن لاحتفال بهيج في وادٍ نديّ دون أن يقمن بدعوة العفاريت، وقد دفعهم هذا الاكتشاف إلى تدبير حيلة مرعبة كعقوبة للجنيات على تجاهلهن لهم.
كان الوادي يزخر بجمال الزهور المتألقة، ولذلك اختارت الجنيات هذا المكان الرائع لإقامة احتفالاتهن. بينما كان العفاريت يتدارسون سُبُل إخافة الجنيات، اقترح أحدهم فكرة ذكية: “لنختبئ تحت الزهور.” فتساءل قزم آخر بدهشة: “وما الفائدة من ذلك؟ إنّ مرادنا هو أن يرانا الجميع.”
فأجاب قزم آخر قائلاً: “لا، لن نجني شيئا إن ظهرن أمامهن دون عنصر مفاجئة، بل يجب أن نختبئ أولاً، ثم نُرعبهم بالظهور فجأة. ولكن، كيف نبلغ هذا الهدف؟ هذا هو السؤال الذي يستحق التأمل.”
أجاب قزم آخر بنبرة مفعمة بالثقة: “لديّ خطة مُحْكَمَة. يمكننا أن نختبئ تحت الزهور، وعندما تصل الجنيات، ستهبطن حتماً على الزهور، فهنّ لا يفعلن شيئًا سوى ذلك إن وُجدت الزهور في متناولهن. عندها، ما علينا إلا أن نقفز، وننقلهن إلى مكان مظلم قبل أن يتمكنّ من استدعاء اليراعات. وبما أن القمر منير هذه الليلة، فإن اليراعات لن ترافقهن، إذ إنها تقيم حفلة في مستنقع بعيد عن هنا.”
وافقت العفاريت على أن هذه الخطة محكمة وذكية بحق. وفي تلك الليلة الحالكة، دخلوا الوادي وتخفوا تحت الزهور الندية.
وبالفعل، ظهرت الجنيات في غضون بضعة ساعات كما تنبأ العفريت، فهبطن على الزهور وشرعن في الغناء بفرح، وكأنهن زهور قد تناثرت في الأفق. وبلا تردد، قفز العفاريت المشاغبون، كلّ منهم يحمل جنية على كتفه، واندفعوا بعيدًا، كأنهم يهربون من عاصفة.
لكنّ القبض على الجنيات لم يكن أمرا سهلا على الإطلاق. فقبل أن يفلح العفاريت في دفعهن نحو مكان مظلم، أمرت ملكة الجنيات خادماتها بأن يلمسن العفاريت بعصيهن السحرية، كالعاصفة التي تجرف ما يعترض طريقها. في الحقيقة لقد كانت الملكة جالسة في عربتها الصغيرة من بعيد طوال الوقت، وكانت عيونها تتابع العفاريت بحيث تراهم ولا يرونها، وسرعان ما دبرت خطة مضادة محكمة لم يكن يتوقعها أحد. فجأة، أحسّ العفاريت بلسعات قاسية من العصي السحرية التي كانت بمتناول الجنيات، ثم غمرهم الظلام العميق، وتحولوا إلى صخور متناثرة في الوادي الذي كان مليئا بالزهور.
قالت الملكة، مخاطبةً الجنيات المتجمّعات حولها: “لقد نجوتن من خطر عظيم، يا عزيزاتي. هؤلاء العفاريت الأوغاد الماكرون قد خُدعوا بفضل حكمة قيادتي، ولولا تدبيري، لكانوا قد أفشلوا خطّتنا لهذه الليلة وأفسدوا فرحتنا.”
انطلقت الجنيات بسرعة، تاركات خلفهن العفاريت التي تحولت إلى صخور. ومع بزوغ شمس الصباح، فوجئت الشمس بغياب الزهور الجميلة التي كانت تزين الوادي وتستقبلها كلّ يوم. تظاهرت الشمس بابتسامة دافئة، معتقدةً أنّ الزهور تختبئ لعبًا تحت الصخور. ورغما عن ابتساماتها الجميلة، لم تظهر الزهور. وعندما حلّ الليل، انحدرت الشمس ببطء، تغمرها مشاعر الحزن والألم، أملًا في أن تلحظ الجنيات القادمات. كانت تتوق إلى استمالة عطفهن ومساعدتهن في العثور على زهورها المحبوبة التي فقدت بهجة الوادي بدونها.
بينما كانت الشمس تتوارى عن الأنظار، برزت في ذهنها خطة بديعة. “سأبعث برسالة إلى القمر عبر نجم من النجوم.” فكرت الشمس في سرها، مُدْرِكَةً أنّ الوقت قد حان لتبادل الرسائل بين الأجرام السماوية لتسوية الأمور وإعادة الهدوء إلى الوادي.
بهدوء وسكون، نادت الشمس نجمًا قريبًا، متوسلةً إياه أن يحمل رسالتها إلى القمر. كانت الرسالة مليئة بتفاصيل عن الصخور التي ملأت الوادي، وطلبت من القمر أن يلتمس مساعدة أصدقائه، الجنيات، للعثور على الزهور المفقودة. استجاب النجم بسرعة، وطار عبر الأفق المظلم، حاملاً الرسالة إلى القمر.
وفي تلك الليلة، تلقى القمر رسالة الشمس، وابتسم ابتسامة واسعة بدأت تتسع حتى تحولت إلى ضحكة خافتة. قال القمر، بلهجة مفعمة بالثقة: “قولي للسيدة الشمس أن العفاريت قد خربوا زهورك. هؤلاء الشياطين الصغار أعملوا خداعهم في جنياتي الطيبات، لكنهم لم يكونوا سوى ضحايا لخبثهم ووقعوا فيما نصبته أيديهم. لا داعي للقلق، سأبذل كلّ جهدي لترتيب الأمور حين تخرج الجنيات هذه الليلة. فأنا أيضًا أكره رؤية الصخور المتناثرة كما تكره الشمس ذلك. وأظن أنّ الجنيات سيعتبرن العفاريت قد نالوا جزاءهم العادل بحلول هذه الليلة.”عندما حلّت الجنيات في الوادي تلك الليلة، تلقّت الملكة دعوة من القمر لزيارة عرشه السماوي.
قبِلت الملكة الدعوة بترحيب، فشكّل شعاع القمر دربًا نوريًا لعربتها المتألقة، قادها مباشرة نحو القمر العتيق.
عندما علمت الملكة بطلب الشمس لم تَسْتَطِعْ غير أن تلتزم الصمت، بينما أضاف القمر بلهجةٍ تفيض بالحكمة: “أرغب أيضًا في استعادة الزهور. لا ينبغي أن نُحمِّل الزهور مسؤولية استخدامها كمخابئ للعفاريت.” فقررت الملكة أن تتريث في التأمل، مُدْرِكَةً أنّ الوقت قد حان لتهدئة الفكر والتمعن بعمق.
عادت الملكة إلى جنياتها، فوجدتهن متجمّعاتٍ في حزن عميق، مكفهرات الوجوه، عليهن ملامح الأسى مع كل حركة. قالت إحدى الجنيات بصوتٍ يشوبه الحزن: “نحن نشتاق إلى زهورنا التي كانت تُزهِر في الوادي، بينما هذه الصخور تبدو قاسية وسوداء تحت ضوء القمر. أشعر قليلا بالندم على تحويلي العفاريت إلى حجر.”
أعلنت الملكة بصوتٍ مفعم بالجدية والثبات: “إذا كان الأمر كذلك، فسنُعيد العفاريت إلى هيئاتهم الأصلية. فقد طلب القمر ذلك، وهو ينفر من الصخور بقدر ما نستنكرها نحن. وأيضًا، الشمس تفتقد زهورها، ويجب علينا أن نسعى جاهدين لإعادتها إلى مكانها. وإن كان القمر لم يكن على علم بجميع تفاصيل ما حدث، فإن مسؤوليتنا تقتضي أن نعيد التوازن ونستعيد ما ضاع.”اقترحت إحدى الجنيات، بذكاء وحكمة: “ربما إذا بعثنا له رسالة تشرح بالتفصيل كيف قام العفاريت بالتسبب في كلّ هذه الفوضى. لعل لديه فكرة عامة عما حصل، ولكن نحن متأكدون أنه إثر سماعنا سيقوم بتوبيخهم ويحثهم على تعديل طرقهم الشريرة.”
صاح الجميع، وهم يرقصون بفرح حول ملكتهم: “أوه، من فضلك، أعيدي لنا زهورنا يا ملكتنا العظيمة!”
أعلنت الملكة، بصوت ملؤه الحزم واليقين: “أعتقد أن العفاريت قد نالوا جزاءهم العادل هذه المرة. لذا سأعيدهم إلى هيئاتهم الأصلية وأسمح للزهور بالعودة إلى أماكنها.”
عند سماع الأمر حلّقت الجنيات كفراشات الضوء نحو الصخور التي تحولت إليها العفاريت، وأمسكن بعصيهِّنَ السحرية، فتجلى تأثير لمساتهن كخيوط من نور مشع. في لحظة من الزمن، قفز أحد العفاريت مدهوشًا، يفرك عينيه محاولًا استعادة وعيه وكأنما استيقظ من حلم عجيب. ولما رجعت إليهم ذاكرتهم، انطلق العفاريت هربا يتعثرون فوق بعضهم البعض في فوضى عارمة، كأنهم سرب من الطيور المتناثرة العالقة في عاصفة ما.
تحت ضوء القمر الفضّي الذي أشاع السكون بهاء، استمتعت الجنيات بليلة خلت من المتاعب، وعمت الفرحة والسرور بينهن. وعندما أشعت الشمس على الوادي في صباح اليوم الموالي، تجلت لها بوضوح زهورها المحبوبة التي استعادت بريقها وعافيتها، تتجه ببتلاتها المتألقة نحو السماء، وكأنها تستقبل بزوغ يوم جديد بابتسامة مشعة وعزيمة متجددة.
وهكذا، عاد للوادي رونقه وبهائه، كأيام الربيع التي تشرق في أبهى حلتها. استعادت الزهور حياتها السابقة، واستمعت الجنيات كعادتها بضوء القمر البهي، بينما استعاد العفاريت رشدهم وتعلموا دروسًا قاسية في ما قد ينجر عن عواقب الأفعال الشريرة. وقد تواصلت الأجرام السماوية بتناغم، على أمل أن يبقى هذا السلام سائدا بين الأرض والسماء، في أفقٍ من التناغم والمودة.