حيوان الـ(سآكلك)

كان في الماضي القريب، في إحدى البحيرات البعيدة، فرخ بط صغير، يُدعى ديكي، ذو ريشٍ ناعمٍ كالحرير وعينين براقتين كاللؤلؤ. كان يسبح بخفة ورشاقة في بركة صافية، متباهياً بمهارته الفائقة في السباحة، وذلك قبل أن يغادر إخوته حضن أمهم الدافئ بزمنٍ طويل. برع ديكي في صيد الديدان والحشرات بمنقاره المذبب الجميل، حتى أضحى محط أنظار إخوته الصغار، يرمقونه بعيون مليئة بالحسد والإعجاب.

وفي يومٍ من الأيام الخريفية، حيث كانت أوراق الأشجار تتراقص في الهواء بألوانها الساحرة، كاد ديكي أن يفقد حياته الثمينة بسبب غروره وثقته المفرطة بحكمته المزعومة. ظن في نفسه أنه قد بلغ من العلم والمعرفة ما لم يبلغه غيره من البط.

سبح ذات يوم بكل ثقةٍ وخيلاء حول البحيرة الفسيحة، متمايلاً بجسده الرشيق، حتّى وصل إلى حافة الغابة الكثيفة، حيث كان يتربص به ثعلبٌ ماكرٌ، ذو فروٍ أحمر كلهيب النار، مختبئاً خلف شجيراتٍ كثيفة الأغصان.

لم يقترب ديكي من الثعلب بما يكفي ليقع في براثنه القوية رغما أنه لم يكن منتبها له أصلا، لكن الثعلب كان على مسافةٍ تسمح له برؤية هذه البطة السمينة الشهية، التي جعلت عينيه تلمعان كنجمتين في ليلٍ حالك.

تنهد الثعلب بصوت خافت، وقال بنبرة حزينة مصطنعة: “آهٍ، لو كان لي صديقٌ حكيمٌ أستشيره فيما يؤرق فكري! إنني مخلوق بائس، ممتلئٌ بالجهل والغباء، لا أعرف من أمور الدنيا شيئاً.”

ما إن سمع ديكي كلمة “حكيم” حتى انتصب ريشه فخراً، وتيقن أنّ الثعلب يقصده دون سواه. أليس هو أحكم بطةٍ على وجه الأرض رغم صغر سنه؟ توقف ديكي عن السباحة، ودار برأسه يميناً ويساراً بحثاً عن مصدر الصوت.

توارى عن الأنظار الثعلب بين الشجيرات الكثيفة، حتى أن طرف أنفه الأسود اللامع لم يكن مرئياً. وكان يتحدث بصوتٍ خافتٍ للغاية، وكأنه حيوانٌ صغيرٌ ضعيف لا حول له ولا قوة.

صاح ديكي بصوته الرنان: “من ذا الذي يبحث عن شخصٍ حكيم؟”

أجاب الثعلب بمكرٍ: “أوه، إنه أنا مخلوق صغير مسكين أُدعى (سآكلك)”، وضحك في سره ضحكةً خبيثةً حتى كاد يختنق، ثم أردف قائلاً: “إنني في غاية الجهل، لا أعرف من أمور الحياة شيئاً، وليس لي من الأصدقاء الحكماء نصيب.”

لم يسمع ديكي من قبل عن حيوانٍ يحمل هذا الاسم الغريب (سآكلك)، لكنه لن يدع أحداً يظن أن هناك شيئاً في هذا الكون يجهله. فسبح بخفةٍ ورشاقةٍ نحو مصدر الصوت وقال بنبرةٍ مليئةٍ بالثقة: “أنا غايةٌ في الحكمة، وإن أردت أن تنهل من معين علمي، فاسألني ما شئت. هلم إليّ كي أراك، فنتحاور على نحوٍ أفضل.”

غير أنّ الثعلب كان في الحقيقة أكثر دهاءً وحكمةً، فلم يسمح للبطة المغرورة برؤيته.

قال الثعلب بصوتٍ متهدج: “يا صديقي العزيز، يؤلمني أن أكشف عن هيئتي البائسة لمخلوقٍ عظيمٍ وجميلٍ مثلك. كم هو مؤسفٌ أن تراني على حالتي المزرية هذه! لكن إن تفضلت بالاقتراب، فستتمكن من سماع سؤالي بوضوح.”

كان ديكي شجاعاً، فاقترب دون أن يساوره أدنى شكٍ أو خوف. فما الذي يمكن أن يخشاه من حيوانٍ ضعيفٍ بائسٍ كهذا المدعو (سآكلك)؟ أيعقل أن ينقض عليه ويلتهمه؟ هذا محال!

سبح ديكي بثقةٍ نحو حافة البركة، وفجأةً، كالبرق الخاطف، انقض الثعلب من بين الشجيرات، وكاد أن يغرس أنيابه في جسد ديكي. لولا أن استخدم ديكي جناحيه بدلاً من قدميه في تلك اللحظة الحاسمة، لما نجا من براثن الثعلب الماكر.

طار ديكي مبتعدا بسرعةٍ جنونيةٍ إلى وسط البركة، قلبه يخفق بشدة، وريشه منتفش من هول الموقف. وبينما كان الثعلب يتخبط في الماء، حلّق ديكي بجناحيه نحو المزرعة القريبة، ليحافظ على ما تبقى من حياته الثمينة، متعهداً في نفسه ألا يخاطر مجدداً بسبب غروره وادعائه الحكمة.

عندما حط ديكي في ساحة المزرعة، أخذ يقص على الديك والدجاجات، بصوتٍ مرتجف، قصة لقائه مع الحيوان الغريب الذي يدعى (سآكلك). وصفه بأنه، رغم صوته الضعيف الخادع، في حجم كلب الروفر الضخم.

بعد أن أنهى ديكي حكايته المثيرة، ساد الاعتقاد بين سكان المزرعة أن ديكي قد اكتسب حكمةً تفوق كل تصور. لكن منذ ذلك اليوم المشؤوم، أقسم ديكي ألا يقترب من الغابة الغادرة مرةً أخرى. ورغم أنه أخبر الديك والدجاجات عن لقائه مع حيوانٍ يدعى (سآكلك)، إلا أنه كان يعلم في قرارة نفسه أنه قد واجه السيد ثعلب الماكر، وكاد أن يدفع ثمن غروره غالياً.


Downloads