في غابر الأزمان، كان هناك ملكٌ عظيم، قد أسبغ الله عليه نعمةً جليلة، إذ أنعم الله عليه بفلذة كبدٍ تتلألأ في سماء الجمال، فتجاوزت حسنها أوصاف الشعراء وتغزل بها البعيد قبل القريب، فصارت القلوب تتهافت نحوها كما تتساقط قطرات الندى على وريقات الزهر، فكان الخاطبون يتسابقون من كل أفقٍ ومكانٍ لنيل شرف القرب منها. ومن بين أولئك المتقدمين، كان هناك قزمٌ غريب الشكل، ذو رأسٍ ضخمٍ، وأنفٍ يمتد طوله كخنجرٍ مشحوذ، مما أضفى عليه من هالة الغرابة وجعله محطّ أنظار الناس، فضلاً عن أنه كان يشكل لغزًا يثير الدهشة ويشعل الفضول.
لا يخفى على ذي لبٍ وعقلٍ راجح ألا أحد كان يتخيل أن تلتفت الأميرة ذات الحسن الباهر إلى الزواج من هذا الكائن الذي يُعد قبيحًا في الظاهر، ولكن القزم، بما اتسم به من جرأةٍ مفرطة، أعلن عزيمته وإصراره على نيل مراده. فلما أبَتْ الأميرة ذلك، ظلَّ في ثورته عازمًا على الوصول إلى حل ما، وكأنَّ سطوة عزيمته تفوق الجبال الراسخة، متمسكًا بفكرةٍ يعجز العقل عن تصديقها.
وفي نهاية المطاف، أقدمت الأميرة على الزواج من أميرٍ جليلٍ، وفي الليلة الموعودة التي تم تحديدها لتتويج زواجهما، اختفت الأميرة كأنها سحابة صيف تلاشت في أفق السماء. بحثوا عنها في جنبات القصر وأركانه، لكنهم لم يجدوا لها أثرًا؛ حتى فستان زفافها لم يبق لم أثر، مما ترك في النفوس لوعةً وحيرةً لا تُمحى، وكأنما اختطفتها يد الغيب في لحظةٍ غامضة.
كان الأمير يعيش في كربٍ عظيم، يتألم ويصرخ من عمق فؤاده بل وقد نشر في الآفاق أنه سيهب نصف ثروته لمن يُسهم في العثور على الأميرة. ولم يكن الملك بأحسن حال، فقد قرر أن يُكرم من يأتي بها بنصف مملكته، فقد استشعر أنّ العرش قد تزعزع تحت وطأة الفراق، وكأن مصير المملكة قد ارتبط بمصير الأميرة المفقودة، فتسارعت الخطى بحثًا عن الأمل في ظلال اليأس الذي خيم على الأجواء.
بينما كانت هناك خادمة صغيرة في المطبخ تُدعى سيلا، قد استحوذ إعجابها بالأميرة على قلبها، فتعلقت بأدبها ورقتها، وكأنها زهرة في بستانٍ مليءٍ بالأشواك. فلما علمت بمصيرها المُفجع، شَعَرَت في أعماقها بأن جذوة الأمل لا بد أن تُوقَد، فعزمت على إنقاذها مهما كلفها الأمر، وكأنها تُسطر صفحة جديدة من النبل والشجاعة، مستعدةً للمخاطرة بكل ما تملك، فنفوس الأوفياء تشتعل بالعزيمة في أعتى العواصف.
وفي ليلةٍ حالكة، حين غطَّ الناس في سباتٍ عميق، تسللت سيلا إلى غابةٍ قريبة، تقصد ساحرةً تسكن أعماقها، لتطلب منها العون. قالت الساحرة بملامح تعكس شغفًا وحكمةً عميقة: “يمكنني المساعدة وفق ما تسمح قواي، فالأميرة في قبضة من هو أقوى مني، ولكن لدي حبة سحرية قد تُعينك إذا أحسنت استخدامها؛ إن القزم هو من اختطفها، أما مكان مخبأه فلا علم لي به.”
أخذت سيلا الحبة، وشكرت الساحرة بعباراتٍ ملؤها الامتنان، ثم انطلقت في دروب الغابة بحثًا عن القزم، إذ كانت مُوقنةً أنه يُقيم في كهفٍ بعيد، مختبئًا كالأشباح في ظلام الليل.
تجولت في أحضان الغابة أيامًا، حتى عثرت على صخرةٍ شامخةٍ تعلو كجبلٍ راسخ. أعجزتها الصخرة عن التسلق، فجلست، مستندةً إلى الصخرة، لتلتقط أنفاسها، وفجأةً، ترددت في الفضاء أناتٌ حزينةٌ تلامس الأسماع. نظرت حولها بتمعن، فما وجدت سوى شقٍ عميقٍ في جانب الصخرة، وكان ضيقًا لا يسع للعبور.
وكادت أن تُطلِق نداءً تستفسر فيه عن صاحب البكاء. ولما سمعت وقع خطوات تقترب من بين الأدغال. اختبأت خلف الصخرة تترقب، حتى ظهر القزم قافزًا من بين الشجيرات والأشواك، متوشحًا بقبضة من حديد. وبعون تلك الأداة، فتح شق في الصخرة، وقد كان هذا الشق بمثابة بابٍ خفي ولج منه إلى الداخل، تاركًا الباب مفتوحًا وراءه كأنه يبعث إلي سيلا بدعوةٍ خفيةٍ للدخول.
فما كانت سيلا، بشجاعتها الفائقة، لتبقى حيث هي، إذ ما إن اختفى القزم حتى انطلقت نحو الداخل كالسهم. ولما دخلت، رأت القزم يقف بجانب أرنبٍ أبيضَ صغيرٍ، يبدو كأنه يعاني من قلة الطعام، فسمعته يقول: “هل توافق على ما أقول أم ستموت جوعا؟”
فلم يزد الأرنب على أن رمش عينيه وأدار بصره بعيدًا، لكن ما أثار استغراب سيلا أكثر، هو ما وقع بصرها عليه بعد ذلك، إذ كان فستان الزفاف الذي كانت الأميرة ستتجمل به ليلة اختفائها معلقًا على حافةٍ من الصخر.
لم تحتمل الانتظار، بل اندفعت نحو القزم وأمسكت بأنفه الطويل، ولوته بكل ما أوتيت من قوة، وصاحت بلهجةٍ قوية: “أين سيدتي، أيها الوغد؟ أخبرني، أين هي؟”
فما كاد يصدر عنها ذلك الاستفسار حتى أطلق القزم صرخاتٍ تعالت كزئير الرعد، وبدلًا من أن يبقى في هيئته، تحول أمام عيني سيلا إلى ضفدعٍ ضخمٍ، قافزًا بعيدًا بسرعةٍ أعجزت عيناها عن تتبعه.
فالتفتت نحو الأرنب وقالت: “يا لك من مخلوقٍ مسكين، أتمنى لو كان لي ما أقدمه لك من طعام، لكنني ملزمةٌ أولًا بالبحث عن سيدتي، فهي لا بد أن تكون هنا، مختبئةً بين ظلال هذه الغابة الغامضة.”
ثم خطرت على بال سيلا فكرة اعطائه الحبة التي أخذتها من الساحرة، فأفصحت قائلةً: “سأعطيك هذه، فإني على يقينٍ أنني لن أحتاج إليها.” وما إن ابتلع الأرنب تلك الحبة حتى اتسعت عينا سيلا كأنها رأت عجبًا، إذ ظهرت سيدتها أمامها، آمنةً سالمة.
سألت الأميرة، وقد غمرتها دهشةٌ عميقة: “آه، سيلا، لقد أنقذتني! كيف خطر ببالك أن تلوي أنفه بهذه الجرأة؟”
أجابت سيلا بشجاعة: “لأن أنفه كان يبدو كأنه صُمم ليلوى على هذا النحو. ثم قالت: “ولكن كيف علمتِ أن هذه الحبة الساحرة ستعيدك إلى هيئتك الأصلية؟”
فأجابت الأميرة: “لم أكن أعلم، ولكنني كنت في حالةٍ من الجوع الشديد، إذ كان ذلك القزم اللئيم يسعى لتجويعي على أمل أن يفرض عليَّ زواجه. لقد منحته ساحرةٌ ذات قدرةٍ هائلة هيئةَ القزم، ولئن تمكن من إكراهي على الزواج به، فسوف يعود إلى هيئته البشرية.”
استفسرت سيلا بفضول: “أكان ضفدعًا قبل ذلك؟” فردّت الأميرة: “نعم، لقد كان ضفدعًا في كهف تلك الساحرة القوية، وجراء خدمةٍ قدّمها لها، أقدمت على تحويله إلى قزم. ثم انتابته رغبةٌ ملحّة في استعادة هيئته البشرية، فأخبرته الساحرة أنه إذا تزوج أميرة وأخذها إلى القصر، فإن أمنيته ستتحقق.”
ثم تابعت: “لقد أخبرني بهذا قبل أن يُحولني إلى أرنب، إذ حملني أولاً إلى كهف تلك الساحرة، التي تسكن في مكانٍ ما في أعماق هذه الغابة، وأرى أنه يتوجب علينا الإسراع قبل أن يصل الضفدع إليها ويخبرها عن هروبي.”
استغرق الخروج من الغابة زمنًا طويلًا، ولكن سيلا والأميرة تمكنتا من إيجاد الطريق. ولما عادتا إلى البيت، قابل الأمير والملك سيلا بعباراتٍ تحمل العرفان: “لقد حان وقت نيلك المكافأة الموعودة.”
تساءلت سيلا، وقد ارتسمت على وجهها علامات الدهشة: “وماذا سأفعل بكل هذا الذهب ونصف المملكة؟ “كل ما أتمناه هو كوخٌ صغيرٌ بديعٌ وبقرةٌ قرب القصر، حيث أستطيع أن أرى سيدتي كل يوم.”
وبطبيعة الحال، تحققت أمنية سيلا، فهناك عاشت في سعادةٍ غامرة، إذ تزوجت من بستاني الملك، وامتلأ بيتها بالبهجة والفرح، وأنجبت العديد من البنات والبنين الذين لم تمل آذانهم من الاستماع لحكاياتها عن كيف أنقذت أمهم أميرة دولتهم من ذلك القزم اللئيم.