في حافة غابة كثيفة عتيقة حيث تلتقي الظلال بأشعة الشمس الذهبية، كان يقبع كوخ صغير يأوي يتيمين: هانز ونيلا. كانا كزهرتين برّيتين ينموان في تربة الحرمان، لكنهما يفوحان بعطر الطيبة والكرم.
في مساء خريفي، حين كانت أوراق الأشجار تتراقص مع نسمات المساء، وبينما كان الأخوان يتشاركان وجبة عشاء متواضعة من العصيدة الدافئة، تردد صوت طرقات خافتة على باب كوخهما الخشبي العتيق. فتح هانز الباب ليجد أمامه رجلاً عجوزاً، وجهه مجعد كلحاء شجرة قديمة، وعيناه تحملان حكمة السنين.
قال هانز بصوت دافئ: “يرجى أن تعذرنا عن فقرنا، فإن بابنا مفتوح لك. سنقاسمك عصيدتنا البسيطة ونوفر لك ملاذاً للراحة. لكن، للأسف، ليس لدينا سوى سرير واحد تنام فيه أختي، لذا ستضطر للنوم على أرضية الكوخ الخشبية.”
هنا تدخلت نيلا، وعيناها تلمعان بنور الشفقة: “دعه يأخذ سريري. فأنا في ريعان شبابي، وجسدي قادر على تحمل قسوة الأرض أكثر منه.”
ابتسم العجوز ابتسامة دافئة كأشعة شمس الصباح وقال: “قلباكما أنقى من الذهب وأثمن. ليحفكما الله برعايته.” ثم تناول عشاءه في صمت، كأنه يتأمل حكمة السنين، قبل أن يأوي إلى فراشه دون كثرة كلام.
همس هانز لأخته: “إنه لشخص غريب الأطوار، كأنه حكيم صامت من حكماء الجبال.” فردت نيلا بحكمة تفوق سنها: “ربما أنهكته رحلته الطويلة عبر دروب الغابة الوعرة.”
مع بزوغ فجر اليوم التالي، وبينما كانت خيوط الشمس الأولى تتسلل عبر شقوق الكوخ، استيقظ الأخوان ليجدا أن ضيفهما الغامض قد اختفى كما تتبخر قطرات الندى تحت أشعة الشمس. وفيما كانت نيلا ترتب السرير، اصطدمت قدمها بشيء صلب. وعندما مدت يدها تحت السرير، استخرجت صندوقاً فضياً يتلألأ كنجم سقط من السماء.
تساءلت نيلا بحيرة: “ما العمل بهذه الأمانة؟ لا بد أن صاحبنا العجوز سيفتقده ويعود باحثاً عنه. علينا أن نحفظه كما نحفظ أرواحنا.”
فحملوا الصندوق الفضي بكل حذر إلى الحديقة ثم دفنوه هناك، على مقربة من بيتهم المتواضع، وكأنهم كانوا يودعون ذكرى في رحم الأرض.
وفي صباح اليوم الموالي، حينما أشرقت شمس جديدة على هذا العالم، نظروا من نافذة منزلهم، فإذا بشجرة باسقة قد نبتت فوق الموضع الذي دفنوا فيه الصندوق. كانت أغصانها تمتد نحو السماء كأنها تبحث عن حكايات جديدة تُروى، وأوراقها الكثيفة ترفرف كأجنحة تحرس ما تحتها.
لم يستطع هانز مقاومة الفضول، فخرج ليتفحص الشجرة. وبينما كان يدور حولها، وقع بصره على باب خشبي صغير مخبأ بين الجذوع. دفعه بلطف، فانفتح على نفق طويل مظلم، كأنه بوابة لعالم آخر. تقدم هانز بحذر في الظلام، وكان النفق يمتد أمامه كأنه طريق لا نهاية له، حتى لاح له نور بعيد، ضئيل، يتراقص في الأفق كنجمة وحيدة في سماء الليل.
سرعان ما أسرع الخطى نحو ذلك الضوء، حتى وصل إليه، ليجد نفسه أمام جبل من الذهب اللامع، تلمع حجارته في ضوء الشمس كأنها نجوم تسقط من السماء. في تلك اللحظة، همس هانز لنفسه قائلاً: “لو كان لدي سلة لجنيت من هذا الذهب ما يكفي لي ولنيلا لحياة كريمة، بلا قلق ولا حاجة.”
ثم فكر قليلاً وقال: “حاليا، سأملأ جيبي وأكتفي بذلك.” فالتقط بيديه الذهب المتناثر حوله، وملأ جيوبه حتى ثقلت بالأحجار اللامعة. وبينما كان يستدير للعودة، إذا بنيلا قد وصلت إليه، وقالت بصوت مشوب بالقلق: “ذهبت للبحث عنك في الحديقة، وعندما رأيت الباب في الشجرة، أيقنت أنك هنا في الداخل. خشيت أن يصيبك مكروه في هذا الظلام الحالك.”
ابتسم هانز لها وحكى لها عن جبل الذهب، فارتسمت الدهشة على وجهها الجميل وقالت: “يا إلهي! لو كان لدينا برميل، لكنا جمعنا من هذا الذهب ما يجعلنا من أغنى الناس”!
لكن هانز بحكمته قال: “لا يمكننا حمل برميل من الذهب. ضعي بعض القطع في مئزرك، وسنكون قادرين على شراء حصان وعربة، وبذلك أستطيع إيجاد عمل في القرية. الحياة البسيطة، يا نيلا، هي أفضل من ثقل الثراء الذي يُرهق القلوب.”
أومأت نيلا برأسها موافقة، وجمعت بيديها القليل من الذهب في مئزرها الناعم، وقالت: “سآخذ ما يكفي فقط.” وعاد الاثنان عبر النفق المظلم، حتى خرجا ليجدا أمامهما مشهدًا ساحرًا. لم يعد هناك كوخهم القديم، بل حل محله بيت أبيض جميل ذو مصاريع خضراء، كانت تطل على الحديقة وكأنها تهديهم حياة جديدة. وعندما دخلا إلى الداخل، وجدا البيت مفروشًا بأجمل الأثاث، وكأنه قد أعد خصيصًا لهما، لينعما فيه بسلام وطمأنينة.
“هل تظن أنّ هذا البيت قد كُتب لنا؟” تساءلت نيلا، وعيونها تتجول في تفاصيل المنزل الجديد بدهشة مشوبة بالتردد، كأنها لا تصدق أن هذا النعيم بات لها ولأخيها.
“بالطبع،” أجاب هانز مبتسمًا بثقة، “انظري، هناك قبعتي معلقة على المسمار، وهنا ثوبك الجميل مطوي على الكرسي وكأنه كان ينتظر عودتك.”
تابعت نيلا قائلة، وقد سرت في قلبها لمسة من القلق: “لكن من يا ترى قد منحنا هذا البيت؟”
أجابها هانز، وهو يمعن التفكير: “ربما كانت الجنيات الخفية هي من فعلت ذلك.” ثم استدرك قائلاً: “علي الآن أن أذهب إلى البلدة لشراء حصان وعربة لنجعل حياتنا هنا أكثر راحة.”
بينما كانت نيلا ترافقه إلى الباب، أوقفتها حركة خفيفة للشجرة بالخارج، فقالت باندهاش: “انتظر! أعتقد أن الشجرة تتحدث إلينا.”
ضحك هانز قليلاً، قائلاً: “إنه مجرد صوت الرياح يداعب الأوراق.” لكنه مع ذلك دقق السمع، وإذا بالشجرة تبدو كأنها تهمس برقة: “بارككم الله، يا أبنائي؛ لقد كنتم طيبين مع شيخ مسن.”
ارتجفت نيلا وهي تلتفت نحو الشجرة وقالت باندهاش: “انظر! الشجرة تشبه رجلاً يمد ذراعيه في دعوة حانية. لنقترب منها أكثر.”
لكن عندما اقتربا منها، لاحظ هانز قائلاً بدهشة: “لقد اختفى الباب الذي كان في الشجرة.”
ابتسمت نيلا بشعور من الراحة وقالت: “أنا سعيدة لأنه اختفى، فأنا أفضل أن تبقى الشجرة بهذا الجمال الساحر، رمزًا للطبيعة التي تحتضننا.”
رد هانز قائلاً: “وأنا كذلك،” وكأن الشجرة شعرت بمحبتهما، فمالت بأغصانها الطويلة لتحيط بهما في حضن دافئ، كأنما كانت تحميهما.
قالت نيللا بنبرة ملؤها اليقين: “أشعر أن هذا الرجل العجوز قد عاد ليحرس صندوقه، وأنا على يقين أنه سيظل يراقبنا ويحمي حياتنا أيضاً.”