في ليلةٍ متألقةٍ ببريق القمر وسحر النجوم اللامعة، كان القمر يلعب لعبة “الاختباء” مع النجوم الصغيرة خلف السحب المتناثرة، يختبئ وراءها ليخفي النور، ويحل الظلام الدامس على الأرض، فتفزع النجوم الصغيرة ويملؤها القلق.
نادت النجوم الصغيرة بصوتٍ لطيف: “يا أبانا، أيها القمر المنير، نرجوك ألا تختبئ خلف السحب السوداء! إن الظلام يرعبنا ويملأ قلوبنا بهواجس مخيفة.”
فأجابهنَّ القمر بصوتٍ عميقٍ هادئ: ” إنما أختبئ أحيانًا لأن تلك العفاريت العابثة قد تسرق كلّ حبات تراب صاحب الرمال، فتغمر الأرض بالأطفال الساهرين الذين لا يغمض لهم جفن.”
وقد شغف الفضول بالنجوم الصغيرة، فسألن عن طبيعة صاحب الرمال والعفاريت الذين يسرقون ترابه.
أجابهنَّ القمر قائلا: “ترقبوا الآن، وسأكشف لكم خفايا هذا الأمر.”
صعد القمر إلى عُلاه في السماء، وقد أشرق بابتسامةٍ أضاءت الأفق كأنها شعاع النهار، فتوقفت النجوم الصغيرة عن التلألؤ وركّزت أبصارها على الأرض.
وفيما كانت النجوم تتفحص العشب الأخضر الندي خلف تل صغير، رصدت شيخًا مسنًا غارقًا في سبات عميق. كان يلبس قلنسوةً خضراء مدببة تكاد تُخفي وجهه، تاركةً فقط أنفه الطويل مكشوفًا. وقد غُطِّي بجلباب أخضر طويل ينسدل حوله كفرش من النبات الأخضر اليانع.
سأل أحد النجوم الصغيرة بدهشة: “لماذا يمتلك هذا الرجل أنفًا بهذا الطول والشكل الغريب؟”
أجاب القمر، وهو يشرق بابتسامةٍ لطيفة تُضيء الأفق: “إنما يمتلك هذا الأنف الطويل كي يستطيع العثور على الأطفال الذين يسعون جاهدين لتفادي وقوع الرمال في أعينهم عند حلول المساء.”
فقالت النجوم الصغيرة، وقد ارتسمت على وجوهها أسارير الفضول: “هل يقوده أنفه الطويل دائمًا إلى الأطفال الساهرين؟”
أجاب القمر، بصوتٍ مفعم بالاطمئنان: “بلى، يا عزيزاتي، دائمًا ما يهتدي بذلك الأنف إلى الأطفال اليقظين. وإن حاولوا الاختباء في أعماق الظلام، يظل أنفه هو الهادي إليهم. وبحركةٍ خاطفةٍ من ذراعه، يرش الرمل في عيونهم الواسعة، فيسقطون في سباتٍ عميق.”
وبجوار الرجل النائم، كانت ثمة حقيبة خالية، وحين نظر إليها القمر بتأمل، أبصر ملكة الجنيات وجنياتها يتسللن من فوق التل، وكأنهن سحابات ناعمة. أحطنَ بصاحب الرمال، وبحقيبته الفارغة. ففتحنها بحماس، وسقطت حبات من الرمل من كل جنية، تتلألأ في ضوء ابتسامة القمر كأنها قطع من الفضة الخالصة، تنفذ من بين أصابع الليل الطويل.
سألت النجوم الصغيرة، وقد غمرها الفضول، بلهجة مشبعة بالتساؤل: “ماذا تضع الجنيات في تلك الحقيبة الغامضة؟”
فأجاب القمر، بصوته العميق المليء بالحكمة والسكينة: “إنما هو الرمل الذي تجود به الجنيات، أيها الأصدقاء، ليمنح سيد الرمال ما يلزم من أدوات سحرية ليحقق أحلام الصغار. فكل حبة رمل من هذا الرمل، تُمنح بدفء من جنية رقيقة، لتحمل الطفل إلى عوالم الأحلام السعيدة والليالي الطيبة.”
ثم انطلقت النجوم الصغيرة، إلى الحديث عن العفاريت المشاغبين الذين يختلسون هذا الرمل الثمين.
أجاب القمر، وهو ينظر إليهن بنظرات مليئة بالأسرار: “ترقبن بعمق فستكتشفن الحقيقة بأنفسكن. انتظرن وتأملن.”
وعندما امتلأ الكيس بالرمل اللامع، صعدت ملكة الجنيات إلى عربتها البيضاء البراقة، التي نُسجت حلّتها من زهور الزنبق الطاهرة. وشرعت الفئران البيضاء الأربع، التي تسحب العربة بكل رشاقة، في الصعود نحو قمة التل، يتبعها موكب الجنيات، وقد أشرقت الألوان وتلألأت في أفق الليل. بينما ظل سيد الرمال في سبات عميق، منهكاً من مطاردة الأطفال الذين تلاعبوا به واختبأوا بمهارة تحت جنح الظلام.
فجأة، لاحظت النجوم الصغيرة، وقد امتلكهنّ الفضول، جحافل من الكائنات الخضراء الصغيرة تقترب من صاحب الرمال النائم، كأنها سرب من الجراد. هؤلاء كانوا العفاريت المشاغبين، يتجاوز عددهم عدد الجنيات، وكانوا يتفقدون الرجل بتمعنٍ، وكأنهم في مهمة دقيقة لا تقبل الخطأ.
فلما تأكدوا من أنه غطّ في نوم عميق، أومأوا برؤوسهم في إشارةٍ متفق عليها، وفتحوا الكيس الذي كان بجانب الرجل. تتابعوا واحدًا تلو الآخر، يزيحون حبات الرمل الفضية التي أودعتها الجنيات، ويستبدلونها بما حملوه من جيوبهم، كأنهم يحرصون على إخفاء جريمتهم.
ثم اندفع العفاريت الخضر، جماعات وفرادى، نحو قمة التل، وتركوا النجوم في حيرةٍ من أمرهم، يرقبون أحداث ما بعد هذا التلاعب.
في تلك اللحظة، اختبأ القمر العجوز خلف سحابة كثيفة داكنة، مما أدى إلى حجب الرؤية عن العفاريت مؤقتًا. ولكن لم تلبث السحابة أن انقشعت، لتكشف عن العفاريت وهم يتدحرجون في صخب إلى أسفل التل بعد أن عثروا بسبب قلة الضوء مصطدمين بصاحب الرمال النائم، والذي استفاق فجأة لهذا الصخب.
استقبل سيد الرمال العفاريت بقبضة محكمة، مستغلاً كل ثقل بدنه لتغطيتهم وتكبيلهم، ثمّ هزهم هزًّا عنيفا كالرياح التي تهز أمواج البحار. تجمعت النجوم في تعجبٍ، تتساءل عن مدى الضرر الذي أصابهم، وما إذا كانوا قد أصيبوا بكدماتٍ وجروح.
بعد أن أوسعوا نفضا وخضا، أطلق سراحهم واحدًا تلو الآخر، مستردًا حبات الرمل الجنية التي كانوا قد أخفوها، وهرعوا مبتعدين.
حمل سيد الرمال كيسه على كتفه، وانسحب عن أنظار النجوم بخفة وسرعة.
سألت النجوم الصغيرة، وقد غمرتها الدهشة والفضول: “إلى أين يذهب الآن، أبانا القمر، في هذه الساعة المتأخرة؟”
أجاب القمر العجوز، بنبرة ملؤها الهدوء والحكمة: “إنه سائر في طلب الأطفال الذين أبوا النوم ورفضوا العودة إلى أحضان الليل. ففي تلك الأوقات، يظهر العفاريت الماكرون، ويودعون بذور الأحلام السيئة في كيسه، لإفساد نوم الأطفال وإثارة الأرق.”
تساءلت النجوم الصغيرة بدهشة: “ولماذا يترك سيد الرمال تلك البذور المشؤومة في كيسه؟ ألا يميز بين رمل الجنيات وبذور الأحلام السيئة؟”
ردّ القمر العجوز، وهو يبوح بما في صدره: “نعم العفاريت، بخبثهم ومكرهم، يجعلون من بذور الكوابيس رملا يشبه رمل الجنيات النقي، بحيث يصعب التمييز بينهما. ولهذا، عندما يشرع سيد الرمال في جولةٍ أخرى تحت سماء الليل الداكنة لإيجاد الأطفال الذين ما زالت أعينهم يقظة، يجد نفسه مجبرًا على حمل تلك البذور السيئة بجانب رمل الجنيات، كما تحمل الرياح الذاريات حبات الرمال مع حبّ اللقاح لا ترفق بين هذا وذاك.”
أعادت النجوم الصغيرة السؤال بفضولٍ ملؤه البراءة: “ألن يكون من الأفضل لو نام جميع الأطفال من المرة الأولى التي يأتي فيها صاحب الرمال، فلا يضطر للعودة ثانية؟”
أجاب القمر العجوز، وقد ارتسمت على وجهه معالم الحزن والعتاب، قائلاً: “لو كان الأطفال على علمٍ بما تعرفونه، لكان الأمر مختلفًا، ولأدركوا أنّ النوم لا يتحقق إلّا في سكون الليل وهدوئه. فإنّ لليل حكمة لا يدركها إلا من تنعّم بصفائه، وجمال سكينته، وراحته الغامرة.”