كان يا ما كان في سالف الأزمان، نجم صغير يتلألأ في سماوات الليل البديعة منذ ألوف السنين، لكنه مع مرور الزمن، ضاق ذرعًا بواجبه الليلي، وتاقت نفسه لاكتشاف أسرار الأرض وما تخفيه من جمال وخبايا.
قال النجم بتلهف وهو يتساءل: “يا تُرى، ماذا يكمن تحتنا، خلف حدود رؤيتنا البراقة؟” كانت كلماته موجهة إلى نجم آخر يجاوره قد أضاء معه ليال عديدة على مر الدهور.
أجاب النجم الآخر بحكمة: “لا علم لي، ولا أدري لما تهتم بذلك أصلا ونحن هنا ننعم بالسعادة والرضا: نضيء السماء كلّ ليلة.”
تنهد النجم الصغير بحزن قائلاً: “لكنني أفتقد السعادة كزهرةٍ تفتقد أشعة الشمس، أشعر بحزن عميق يكتنفني لأنني أتوق لرؤية ما يوجد تحتنا، وإنني لعاجز عن رؤيته من هنا. أتساءل ماذا سيحدث إذا نزلت؟ هل سأستمر في السقوط إلى الأبد، أم سأجد مكانًا أجمل من هذا العلاء؟”
ومع بزوغ طيف الأحلام، انطلق النجم الصغير في رحلة تملؤها الحيرة والأمل، لعله يجد في الأرض ما ينير قلبه كما كان ينير الليل من قبل.
ردّ النجم الآخر بنبرة حازمة، وكأنه يحاول أن يُثني زميله عن أحلامه الطائشة: “لم أفكر قط في أيّ مكان آخر غير هذا الفضاء السماوي. لو كان مقدرًا لنا أن نسكن مكانًا آخر، لكنا وُضعنا هناك منذ الأزل. أنصحك بأن تبعد عنك هذه الأفكار الجامحة، وتبحث عن السعادة في موطننا البهي هذا، حيث نضيء كلّ ليلة بجوار إخوتنا النجوم.”
وقع انتباه القمر العجوز على حديثهما أثناء الكلام، وعندما انتهى النجمان من حديثهما، أعرب بحكمة قائلاً: “إن البقاء حيث تنتمي هو عين الحكمة. فالأرض قد تكون موطنًا للبشر، لكنها ليست البيئة المناسبة للنجوم الصغيرة مثلكما. إذا نزلت إلى هناك، ستضيع في متاهات العالم ولن يعرف أحد أين تنتمي. ابق هنا بين أقرانك النجوم، واستمر في الإضاءة في هذا الفضاء الفسيح.”
ورغم كلمات القمر الحكيم، لم يستطع النجم الصغير أن يقاوم افتتانه بالعالم أسفل ناظريه. وفي ليلة هادئة، حين كان استقر النسيم ولفّ السكون الأرجاء، لمح النجم الصغير سحابة ناعمة تتجه نحو القمر العجوز، ففكر بلهفة: “هذه فرصتي. بمجرد أن تغطي السحابة وجه القمر، سأهبط من السماء. وإذا ما لم تعجبني الأرض، سأعود على الفور.”
وهكذا، بشجاعة جامحة ورغبة ملتهبة، نزل النجم الصغير من عليائه كالشهاب المتوهج. وأثناء سقوطه من أعالي السماء، صرخ أحدهم: “إنّه لشهاب!” وفي النهاية، وجد النجم نفسه في حقل واسع من الأقحوان، مستلقيًا على العشب الأخضر الكثيف، ومحاطًا بعالم جديد يجهله. حينئذٍ، اقتربت منه خنفساء كبيرة وسألته بدهشة: “من أين أتيت؟”
أجابها النجم الصغير بفخر: “إنني نجم، جئت لأزور أرضكم الجميلة.”
نادت الخنفساء على رفيقتها قائلة: “تعالي هنا! انظري، نجم نزل إلى الأرض.”
ردت الخنفساء الثانية بلهجة مشككة: “هذا ليس نجما. فالنجوم تضيء بوهج مشع. إنه لا يزيد عن كونه مجرد قطعة من الحجر.”
أصرّ النجم الصغير قائلاً: “لكنني نجم حقيقي. لقد كنت أضيء في السماء لآلاف السنين. وما جئت هاهنا إلا لأكتشف جمال الأرض وسحرها.”
تهكمت الخنافس وقالت: “إننا لا نفتقر للذكاء، فابحث عمن هم أدنى منّا وأقنعهم بذلك”، وتركن النجم الصغير في حيرة وتساؤل عن جدوى زيارته للأرض.
بعد فترة، سمعت الأزهار الباكية صوتًا قادمًا من أعماق العشب، فانحنت برؤوسها الرقيقة لتستمع.
قالت زهرة الأقحوان بلطف: “يبدو أنّ الصوت آتٍ من تحت العشب. علينا أن نتحقق من مصدره.”
وعندما رأت الزهور النجم الصغير يطلب المساعدة، بكى النجم قائلاً: “أرجوكن، أخبرنني كيف أعود إلى موطني السماوي!”
حينها، سألت الزهور برقة ولطف: “من أين أتيت أيها الزائر؟”
قال النجم الصغير بلهفةٍ وحنين: “إنني نجم، ومقامي في الأفق السماوي يتجاوز حدود هذه الأرض. لقد سطعت في الفضاء لقرون عديدة، وها أنا قد نزلت لأستمتع بجمال الأرض الخلاب. لكنني الآن عالق، وعاجز عن استعادة دربي صوب السماء.”
تساءلت الأزهار بدهشة وشفقة: “أأنت نجم؟ لا تذكّرنا هيئتك هذه بما نعرفه عن النجوم في علوها وبريقها، بل تبدو كأنك شهابٌ فقد لمعانه وسقط من عليائه.”
ثم أضافت الأزهار، وقد اعتراها الحزن والانكسار: “نخشى أننا لا نستطيع تحقيق مرادك؛ فليس منا من يعرف طريق السماء، ولا ندري كيف نعيدك إلى موطنك العلوي.”
تأثر النجم الصغير، وذرف الدموع من عينيه، وقال بأسى وحنين: “وا أسفاه! واحسرتاه! هنا تغمرني الظلمة ويعجز بصري عن التمييز. هل من عونٍ يُبصرني طريق العودة إلى موطني، حيث كنت أشرق في الفضاء؟”
فأجابت زهرة الأقحوان بحكمة وهدوء: “ربما يساعدك القمر الحكيم، الذي يسلط نوره في الليالي الظلماء، عله يستطيع إرشادك إلى طريقك المفقود، فقد يكون على دراية بكيفية رجوع النجم الساقط صوب السماء.”
سأل النجم الصغير بلهفةٍ واشتياق: “أين هو؟ أين هو؟ لا شك أنّ القمر، بمكانته السامية، قادر على إعادتي إلى الأفق الذي كنت فيه.”
أجابت الأزهار برقةٍ وحنان: ” القمر ليس بحاضرٍ الآن، لكن ما إن تنقشع السحب، سنسعى لاستشارته بالنيابة عنك.”
ومع مرور لحظات قليلة، انقشعت السحب ليظهر القمر، مشعاً بأشعته الفضية الرقيقة، وكأنها خيوط من نورٍ ناعم تنثر عبر حقول الأزهار. تغلغلت أضواءه في المكان الذي وجد فيه النجم الصغير ملاذه، فأنارت درب العودة وغمرته بالضياء المأمول. فصرخت جميع الأزهار معًا: “السيد القمر! ها هنا نجم ساقط. هل يمكنك إرشاده إلى موطنه؟”
قبل أن تتمكن الأزهار من إتمام سؤالها، رأى النجم الصغير أشعة القمر اللامعة تتسلل عبر الغيوم. فرفع وجهه نحو السماء، وصاح بفرحٍ غامر: “عادت لي الرؤية! عادت لي الرؤية! ها هو الطريق الذي سيرشدني إلى موطني السماوي!”
أجاب القمر بحكمة، وقد سطع بنوره البديع: “إن كانت الأزهار حقاً تودّ أن أمدّ لك يد العون في استعادة طريقك، فإني سأفعل. ولكن يجب أن تعي، أيها النجم، أنك تستحق العقاب على ما فعلت. هجرت إخوتك وموطنك حيث كنت تنعم بالسعادة والبهجة. فالضياع هو ثمنٌ لتلك الفُرقة، ودرسٌ لتقدير ما فقدت.”
توسلت الأزهار بلطف، ودموعها تتسلل على أغصانها كندى الصباح، قائلات: “نرجوك، أيها السيد القمر، بلسانٍ مفعم بالخشوع والتوسل، أن تمنح النجم الصغير فرصة العودة إلى موطنه، وتعيد له فرصته في التألق بين النجوم. نحن واثقات كلّ الثقة أنه لن يُغادر مكانه السماوي مجددًا، وأنه سيظل يضيء في سمائه بعد عودته.”
وعد النجم الصغير بصدقٍ وندمٍ عميق: “أعاهدك، أيها السيد القمر، بأني لن أترك مكاني أبد الدهر، وسأبقى دائمًا بجانب إخوتي النجوم، مهما تطاولت السنين.”
أجابه القمر بجدية: “إذن، سأرشدك إلى موطنك السماوي. لكن تذكر، أنك ستحتاج إلى فترة طويلة لاستعادة بريقك القديم. وأيضًا، سيكون عليك أن تفارق المكان الذي كنت فيه فترة طويلة، ولتكونن النجم المنعزل الذي يسعى إلى استعادة مكانته.”
بتسليط شعاع القمر اللامع، استأنف النجم الصغير صعوده إلى عرش السماء، ليعيد التألق في ملكوت الفضاء. ولما مرّ بجانب رفقائه من النجوم، مال برأسه خجلاً، كأنما يحاول أن يستر دموعه وندمه. كانوا يذرفون الدموع أيضا على فراقه، والأحزان تتسلل إلى قلوبهم، فهو لن يتألق بجانبهم مرة أخرى.
رحل النجم الصغير دون أن يلتفت أو يعيد النظر، وكأنما سحر الأرض لم يكن له في نفسه أي أثر. وفي النهاية، وجد نفسه معزولًا عن إخوته، منفردًا في فضاءٍ ولا أمل له في استعادة بريقه السابق إلا بعد مائة عام. بينما هو في محاولته الدؤوبة لاستعادة تألقه، ستشرق النجوم الأخرى ببريقٍ متجدد، وستتسع الفجوة بينها وبين النجم الصغير الضائع، لتصبح أبعد من أيّ أفقٍ يُطال.
آه، ما أتعس حال النجم الصغير المسكين! لقد اختبر درسًا قاسيًا، وأدرك بمرارة قيمة البقاء في موطنه السماوي، حيث كان ينتمي.