في سالف العهود والأزمان، كانت هناك ساحرة تقطن على قمة جبل شامخ في بلاد نائية. وفي كل عام، كانت تهبط من أعالي الجبل صوب المدينة، حيث تشق طريقها إلى قصر الملك، وتطلب منه إمدادها ببعض الذهب والفضة كما كانت عادتها في ابتزازه.
وفي ليلة من الليالي التي كان فيها الفرح يعم أرجاء القصر، حيث احتفى الملك والملكة بحفل عظيم ابتهاجاً بميلاد ابنتهما الأولى، الأميرة ليلي، زارتهم الساحرة العجوز كعادتها، متكئةً على عصاها، مطالبة بمطلبها المعتاد: كيس من الذهب والفضة.
ولما بلغ الخبر مسامع الملك، قال لخادمه بنبرة حازمة: “اذهب إليها وأخبرها أن تعود أدراجها، فقد بذلتُ كلّ ما في خزائني من مال لإقامة هذا الحفل الباذخ. عليها أن تنتظر حتى العام القادم لتنال ما تريد.”
حين بلغها ردّ الملك، استشاطت الساحرة غضباـ فتخفّت في ظلال الليل بين أروقة القصر، حتى غلب النعاس أهل القصر تلك الليلة. ومن ثم تسللت بخفة، لا يُسمع لها همس إلى داخل المبنى، واختطفت الأميرة الطفلة من مهدها.
وعندما اكتشف الملك والملكة ما حل بهما من مصاب جلل، تفطرت قلوبهما حزناً على ابنتهما المفقودة. وأعلنا عن مكافآت عظيمة لمن يُعيد الأميرة ليلي، لكن كل المحاولات باءت بالفشل، فلم يستطع أحد أن يكتشف أثرها أو يجد لها مكاناً فلم يكن أحد يعرف مكان الساحرة من الأساس.
حينها، تقدم أحد حكماء الملك قائلاً: “يا مولاي، السبيل الوحيد لاستعادة الأميرة هو العثور على الساحرة العجوز التي تسللت إلى قصرنا في ليلة الحفل فالغالب أنها وراء هذا الصنيع الفاحش. فعندها ستجدون الأميرة في الغالب.”
وبدأت رحلة البحث الشاقة، وجابوا البلاد بطولها وعرضها، إلا أنهم لم يجدوا أثراً للساحرة. فكلما حاول أحد تسلق الجبل الذي تسكن فيه، كانت الحشرات تكتظ في الجو كأنها سحب ضبابية كثيفة، تمنعهم من رؤية طريقهم أو الاستمرار في تسلق القمم الوعرة. فتلاشت آمالهم كما تتلاشى الأنوار في عتمة الليل.
وبعدما أعيتهم الحيل، واستنفدوا كل السبل، تخلّى الناس واحداً تلو الآخر عن محاولات العثور على الأميرة الضائعة. غمر الحزن قلبَي الملك والملكة، فأعلنا في النهاية الحداد على ابنتهما وكأنها قد فارقت الحياة إلى الأبد. أما الساحرة العجوز، فلم تُرَ في القصر مرة أخرى، وكأنها اختفت إلى غير رجعة.
ومع مرور السنين، لم يرزق الملك والملكة بطفل آخر. كانا يبكيان في صمت ذكرى فقدان ابنتهما الوحيدة، فقد بات واضحاً أنه لن يكون من وريث لعرشهما، ولن يحمل راية الحكم بعد رحيلهما أحد.
وفي يوم من الأيام، تقدم أحد الحكماء مخاطبا الملك وقال: “يا جلالة الملك، هناك في أعماق الغابة غول يسكن في كهف مظلم، ولديه حصان بديع الجمال، لا مثيل له في الروعة. يُحتفظ بهذا الحصان في إسطبل من الرخام، ومربطه مصنوع من الذهب الخالص، ولا يتغذى إلا على الذرة المزروعة في حقل فريد، يُقال إن تربته من اللؤلؤ. إذا تمكنا من الحصول على هذا الحصان، فسنتمكن من تسلق الجبل الذي تعيش فيه الساحرة العجوز دون عائق فقوته مهولة. من ثمة قد نجد الأميرة على قيد الحياة أيضا.”
فرد الملك: “ولكن كيف لنا أن نحصل على هذا الحصان المسحور؟”
أجاب الحكيم: “آه! هنا يكمن التحدي، يا مولاي. فهذا الحصان لا يمكن الإمساك به أو ركوبه إلا لمن يستطيع أن يطعمه من تلك الذرة السحرية. لكن حقل اللؤلؤ ليس كما يبدو، فهو فخ مميت. كل من يحاول جمع الذرة منه يغرق بين لؤلؤه، ويضطر للهرب حتى ينقذ نفسه. وحده الغول يعرف الكلمات السحرية التي تمنع اللؤلؤ من سحبه إلى أسفل، وهو الوحيد القادر على حصاد الذرة دون أن يُهلك نفسه.”
عندما علم الملك بهذه الخطة، أرسل في طلب كافة أمرائه من أرجاء المملكة، وجمعهم في قصره ليعلن أمامهم قائلاً: “من يظفر بحصان الغول المسحور ويتمكن من ركوبه، ويُعيد لي ابنتي المفقودة، الأميرة ليلي، سأمنحه كلّ مملكتي، وأزوجه ابنتي.”
لكن الأمراء، وقد كانوا جميعاً أغنياء بما يكفي ولا يعرفون الأميرة أصلا، لم يروا في هذه المهمة ما يستحق المخاطرة بحياتهم من أجله، فاعتذروا عن قبول التحدي. وحين رأى الملك ذلك، بعث برسالة مماثلة إلى شباب المملكة الفقراء، يطلب منهم القدوم ويعرض عليهم نفس المكافأة. إلا أن الخوف كان مسيطرا على الجميع، فلا معنى لهذه التضحية لو مت في المحاولة، فلا يعوض الحياة شيء. فرفضوا المهمة واحداً تلو الآخر. ولم يتبقَ سوى شاب فلاح، بسيط الحال لكنه جسور القلب.
قال الفلاح للملك بثقة: “مولاي، سأبذل قصارى جهدي لتحقيق ما تطلبه. ولكن دعني أخبرك شيئاً، لن أتزوج الأميرة إلا إذا أحببتها هي أولاً، وإن لم ترغب هي في الزواج مني، فلن أطالبك بهذا الجزء من الجائزة. يكفيني أن أكون حاكماً للمملكة إذا نجحت في إعادة صغيرتك.”
وفي تلك الليلة، انطلق الفلاح الشاب إلى الغابة بحثاً عن جنية عاشت هناك، عسى أن تقدم له المساعدة. وعندما وجدها، عرض عليها قصته وطلب منها العون.
فقالت له الجنية: “يا فتى، لا سبيل لك إلى حقل الذرة السحرية إلا إذا ظفرت بأحذية الغول العجيبة، وهي أحذية قد اختص بها دون سائر الخلق. إنه يضعها عادة تحت سريره الذي يضطجع عليه، قريبة منه حتى لا يتمكن أحد من سرقتها. كما يجب أن تنتبه إلى أنه يربطها بخيط من حرير ناعم إلى إبهام قدمه اليمنى ولا يقدر أحدٌ على قطع ذلك الخيط أو مسّه، إلا وأيقظه من غفوته، والويل الشديد لمن يقدم على ذلك.”
ثم استطردت الجنية قائلة: “لكنني سأهبك ريشة ذات سر غريب، فإذا تهيأ لك أن تتسلل إلى مخدعه دون أن ينالك أذى من كلبه ذو الرأسين، فخذ الريشة ودغدغ بها قدمه اليسرى، فتتمكن من قطع الخيط الحريري دون أن يشعر بوجودك. غير أني مخبرتك بهذا فاحترس، إن الكلب ذو الرأسين ليس لي عليه سلطان، ولن أستطيع ردّ أذاه إن هو حال بينك وبين ما تريد.”
فأخذ الفلاح الريشة السحرية، وانطلق في مغامرته. وفي تلك الليلة وصل إلى قلعة الغول القابعة في عمق الأدغال، حيث ظل مترقبًا، ينصت إلى صوت شخير العملاق، حتى إذا سمع ذلك الصوت المتردد في أرجاء القلعة، أخرج من جيبه عظمتين كبيرتين، مهيئًا نفسه لما هو آت.
وجد الشاب باب القلعة مفتوحًا، إذ لم يكن الغول يعرف شيئًا عن الخوف، ويترك أبوابه مفتوحة دون أي مشكل، فلا أحد يقترب من بيته أصلا.
ولما تخطى الفلاح عتبة القلعة، نبح الكلب ذو الرأسين بصخب كالموج العاتي، وانطلق نحوه بخطواتٍ مهددة، لكن الفلاح، بما يملك من شجاعة، دفع العظمتان صوبه، فهدأ نباحه واختفى سعار الغضب.
بدأ الكلب ذو الرأسين يستسلم لشهوة الطعام، بينما تسلل الفلاح بخفة إلى غرفة العملاق النائم، وهناك، تسارعت دقات قلبه خوفا حيث بدأ بدغدغة قدم الغول اليسرى، والتي كانت تتدلى من تحت الغطاء الضخم.
بدأ الغول العجوز في الضحك، ضحكًا يجسّد صدىً عميقًا من الفوضى والجنون، فكان صوته عاصفًا إلى حد أنه طغى على كل صوت آخر في تلك الأرجاء البعيدة. ومع تلك الضحكات المدويّة، أتيح للفلاح الوقت الكافي ليكسر الخيط الرفيع الذي كان يربط الحذاء السحري بيد واحدة، بينما يدغدغ قدم العملاق اليسرى بيده الأخرى. وبينما استقر الحذاء تحت ذراعه، تسلل بخفة كظلال الليل بعيدًا عن السرير، تاركًا الغول في نوبة ضحك متواصلة.
كان الكلب ذو الرأسين لا يزال يلتهم العظام، فخرج الفلاح ليجلس على درجات القلعة ليرتدي الحذاء السحري. وما إن انتهى من ارتداء الحذاء حتى أكمل الكلب ذو الرأسين العظام وعلا صوته بنباح ظن الفلاح في البداية أنه صوت الرعد.
فلما كان له إلى أن يركض إلى حقل اللآلئ حيث نمت الذرة السحرية، وكان بالكاد يجذب الذرة إذ اندفع الغول من قلعته بعنف، يتبعه الكلب ذو الرأسين، وفمهما مفتوحان كأنما يستعدان لافتراسه.
هرب الفلاح خارج الحقل، وفي الأثناء تبعه الغول بعد أن شق كامل الحقل ناسيا أنّه لا يرتدي حذائه السحري، وفجأة ابتلعته الأرض، وانغلقت اللآلئ فوقه.
لقد نجى الفلاح بحياته ولم يكن يصدق عينيه حتى. ولكن رغما عن أنّ الفلاح قد تخلص من الغول، إلا أنه لم ينجُ من مطاردة الكلب ذي الرأسين، الذي انطلق خلفه، مكشّرا عن أنيابه المخيفة، وهو ينبح بلا انقطاع ويتبع رائحة الفلاح في كل مكان.
لكن الفلاح كان قد سبق الكلب بمدة طويلة، فبلغ الإسطبل وأطعم الذرة السحرية للحصان المسحور، الذي صهل بوداعة شديدة، وأمال ظهره مرحبًا به لامتطائه، فقد كان الغول يستعبده لسنوات طويلة.
كان يرتدي لجامًا من الذهب والفضة، مزينًا بأحجار الياقوت، بينما كان لونه أبيض نقيًا، وقد زُين سرجه المخملي الأرجواني بزخارف من الذهب والفضة.
كان الحصان ملكيًا بامتياز، بينما بدا الفلاح المسكين غريبًا في هذا المقام الرفيع. قاد الفلاح الفرس النبيل إلى ساحة القلعة، وحينها لمحهما الكلب ذو الرأسين اندفع نحوهما. أحس الحصان المسحور بالكلب يندفع صوبه من خلفه ليهاجمه فرفع رجليه وركل الكلب ركلة قوية دفعت به أمتارا في الهواء وهو يصيح متألما.
شاهد الفلاح كل ذلك وهو مندهش من قوة هذا الحصان الفريد، ثم بحث في كل الأرجاء عن الكلب أو ما بقي منه فلم يجد له أثرًا؛ لقد حلّت في موضعه صخرة كبيرة سوداء بارزة مسننة كأنها مجموعة من الأسنان الضخمة المتراصة. وهكذا تخلص الفلاح الآن من مطارديه، فانطلق نحو الجبل حيث أفاد الملك بمكان إقامة الساحرة.
صعد الحصان الأبيض المسحور نحو قمة الجبل، وكأنه يملك أجنحة بدلاً من الأقدام، فحمل الفلاح صوب القمة في دقائق معدودة. تطلّع الفلاح حوله، متوقعًا رؤية كهف مخيف، لكنه تفاجأ برؤية بستان من الأشجار، يتلألأ فيه شيء لامع كأنه منزل.
وعندما اقترب من البستان، انكشف له منظر قلعة زرقاء من الزجاج، بلا أبواب أو نوافذ، وفي داخلها رأى فتاة ما.
رفعت الأميرة طرفها نحو السماء، فإذا بظل الفلاح وجواده ينعكس على زجاج القلعة، وعيناها تشعّان بدهشة كبيرة. ولم يكد الفلاح يهمّ بالنزول عن صهوة جواده، حتى وصلت عجوز هَرِمة، بيدها عصا خشبية ضربت بها رأس الأميرة ضربة خاطفة، فإذا بها تتحول في لحظة إلى فأرة صغيرة.
بقي الفلاح واقفًا، مذهولاً وعاجزًا عن الحركة لبرهة من الزمن، لكن ضحكة العجوز الجهورية أيقظته من غفلته، فأدرك في لحظة أنها الساحرة الخبيثة. فصرخت قائلة: “ها ها! لقد أسرْتَ الحصان، ولكن لن تُعيد الأميرة إلا بعد موافقتي!” ثم تلاشت فجأة، كأنها قد انغمست في جوف الأرض.
جال الفلاح حول القصر الأزرق، متفحصًا زواياه بحثًا عن بابٍ أو نافذة، لكنه لم يفلح في العثور على أي منفذٍ أو فتحةٍ تُذكر. وبينما كان يقود حصانه بلجامه الذهبي، إذ فجأةً، رفع الحصان إحدى قدميه الأماميتين، ليهوي بها على جدران القصر الأزرق، فحطّم زجاجه بصخب مدوٍ، وكشف عن فجوة واسعة للدخول.
كان الفلاح على مشارف الدخول، متخليًا عن الحصان المسحور في الخارج، عندما دوى صوت تحطيم آخر فقد تبع الحصان خطواته، وقد أحدث فجوةً تسعُهما معًا. وفي أحد أركان الغرفة، رأى الفأرة جاثمة في رعب مما حدث، فعمد إلى الإمساك بها بحذر شديد، كأنما يمسك بجوهرة نادرة، ثم دسّها في جيبه وهي ترتجف.
انطلق الحصان نحو المكان الذي اختفت فيه الساحرة العجوز، وطرق بأحد قدميه الأماميتان على الأرضية الزجاجية ثلاث مرات. سرعان ما صعدت الساحرة من أعماق الأرض مرة أخرى، ولكنها لم تكن تضحك كما في السابق؛ بل ظهرت عليها علامات الاضطراب والخوف، حتى اضطرت إلى الاستناد على عصاها لتجنب السقوط.
يا لها من قوة مهولة وذكاء خارق يمتلكه هذه الحصان العجيب! ثم أمسك الحصان المسحور بطرف فستان الساحرة، وهزّها ثلاث هزات متتالية، فانزلقت من جيبها حبة فاصولياء سوداء مُنقطة ببقعة بيضاء. وما إن وقعت على الأرض حتى أطلقت الساحرة صرخة مدوية، وسقطت على ركبتيها. ابتلع الحصان الفاصولياء سريعا بقضمة واحدة، والفلاح يراقب من بعيد في دهشة غامرة كلّ هذه الوقائع العجيبة، غير قادر على الحركة، يساوره الخوف، متسائلاً في أعماق نفسه عما ستحمله الأحداث القادمة.
بينما كان الحصان يبتلع حبة الفاصولياء، بدا كأنه يذوب في الظلال، وتغلغل في أرجاء الغرفة ضباب أزرق كثيف. وحينما تلاشى هذا الضباب، أبصر الفلاح شابًا وسيمًا طويلا وقويا يقف في الموضع الذي كان يشغله الفرس، بينما حفرت حفرة ضخمة في قلب الغرفة حيث كانت تتواجد الساحرة.
استفسر الفلاح، دون أن يدري كنه ما يلفظ: “هل سقطت في تلك الحفرة؟” فأجابه الشاب: “لا، بل في تلك الحفرة سنعثر على التعويذة السحرية التي ستعيد الأميرة إلى هيئتها الأصلية. لقد غابت الساحرة في ضبابها الأزرق.”
ثم أتبع بحماسة: “هيا بنا نتعجل ونكتشف التعويذة!” ثم انزلق إلى داخل الحفرة، فتبعَه الفلاح بخطوات مترددة.
كان هناك سلمٌ فنزلوا عبره، واستمروا في الانحدار حتى بدا لهم أنه ممر بلا نهاية. لكن أخيرًا لامست أقدامهم شيئًا صلبًا وناعمًا، ووقفوا في غرفة رائعة، ازدانت بسجادة من المخمل الأزرق.
كانت الغرفة مُزخرفة بمخمل بلون الياقوت، ذات كراسي مصنوعة من الذهب المصقول مع مقاعد مطرزة. وفي وسط الغرفة، تدفقت نافورة من الذهب، مائها العذب يتساقط في حوض من الياقوت، كأنه ينبوع من الأحلام.
قال الشاب حينئذٍ: “هذه هي النافورة السحرية. ينبغي عليك أن تلقي بالفأرة الصغيرة فيها إذا ما أردت استعادة الأميرة.”
وأخرج الفلاح من جيبه الفأرة المرتعشة، وهو يتململ، قائلاً: “إنها تعتريها الرعدة، وأكره أن أُسلمها لتلك المياه العميقة.”
فما لبث الشاب أن أمسك بالفأرة من يد الفلاح، ورمى بها في النافورة بكل قوة، فاختفت في غياهب المياه، كأن لم تكن.
قال الفلاح، وهو يتأمل الماء الأزرق العميق بعينيه المرتاعتين: “آه، لقد قضيت عليها!” وما إن انتهت كلماته، حتى أبصر رأسًا يبرز ببطء من قاع الحوض، كما يبرز الفجر من ظلمات الليل. ثم خرجت الفتاة، وكأنها نجم يتلألأ، من النافورة، وشعرها الذهبي المبلل يلمع تحت أشعة الشمس، كأنه خيوط من الذهب.
في الأثناء هبت نسمة دافئة عبر النوافذ، فأسرعت لتجفف شعرها وملابسها. كان الفلاح يراقب من بعيد فاتحا فيه إذ لم يشهد في حياته جمالا يضاهي الأميرة بهاءً.
قال الشاب، وهو يتوجه إلى الأميرة: “أنا الأمير الذي أُصبتُ بسحر الغول، فابتُليتُ بأن استعبدني كحصان له لسنين طوال. لقد اختُطفتُ في اللحظة ذاتها التي اختُطفتِ فيها، والعفريت الذي كان شريك الساحرة هو من أخذني، بينما حبسَتك الساحرة منذ أن كنت صغيرة. لكن هذا الشاب، بفضل شجاعته، قد أنقذنا من براثن الشر. لقد كانت الساحرة تُخزن الحبة السحرية التي أعادت إليّ ملامحي الطبيعية في هذا المكان. ولو لم تكن تلك الجنية الطيبة قد زارتني في إحدى الليالي وأفشت لي بهذا السر، لما استطعت أن أستعيد صورتي الإنسانية هذه ولما علمت أصلا ما الحيلة لذلك.
خلال حديث الأمير، كان الفلاح يلاحظ الأميرة تُبصره بنظرة مفعمة بالمودة، فغمرته مشاعر مختلطة، علم في قرارة نفسه أنها ليست له، وأنه لن يجد السعادة أبدًا في قصر الملك.
بدأوا جمعيًا يتفقدون المكان، واكتشفوا أنهم في قصر جميل كان مسكن الساحرة القديمة، لكنه الآن، وقد غادرت إلى الأبد، بات بمثابة ذكرى لأزمنة مضت. فقال الفلاح بذكاء: “سآخذ هذا القصر لي، وأترك الأمير والأميرة ليعودا إلى المملكة.”
وفي الإسطبلات وجدوا خيولًا بيضاء جميلة. فركب الأمير والأميرة على أحدها، بينما جعلا الفلاح يعدهما بحضور زفافهما، وأن يرقص مع العروس في تلك الليلة المبهجة. قالت الأميرة، مبتسمة بحنان: “إنّنا لن نغفل أبدًا عن ذكراك يا صديقي، ولزامٌ علينا أن نُحافظ على صلة الصداقة بيننا أبد الدهر.”
أنصت والد الأميرة باهتمام بالغ إلى القصة التي روتها عليهما ابنتهما، ولكن الملكة عقبت قائلةً: “إنني أستطيع أن أستشف حقيقة كونك ابنتنا الضائعة. هلمي، ودعيني أرى كتفك الأيسر، ففيه وشم اسم طفلتنا منذ الولادة.”
استجابت الأميرة وكشفت لها كتفها، وكان الوشم فعلا حيث تم وصفه، وتأكد الجميع من أنها الأميرة المنشودة. عندئذٍ، انتشرت الأفراح في كامل المملكة وأقام الملك وليمةً فاخرةً تُعبّر عن فرحته بعودة ابنته واحتفالاً بهذا اللقاء السعيد. وتوّجت تلك اللحظة السعيدة بزواج الأمير والأميرة، حيث رقص الفلاح في حفل الزفاف كما وعد، يُشاطرهما فرحتهما ويتغنّى بنغمات السعادة التي ملأت الأجواء.