القطة الخضراء


وقفت الساحرة العجوز بيتو على عتبة كهفها المهيب، الذي يعانق قمة جبل سامق؛ وذراعاها النحيلتان الطويلتان ويديها ذوات المخالب الطوال المشابهة لمخالب الكواسر تميزها عن باقي الخلائق. بينما كانت الرياح تعصف بخصلات شعرها الرمادي المتناثرة، فتبدو كقرون الماعز تلتف حول وجهها الشرير البغيض.

وكانت نار غضب الساحرة العجوز تتأجج، إذ إن أهالي القرية قد أقاموا حفلًا مبهجًا لم يعروا لها فيه أي اهتمام.

ولكن من كان ليخطر بباله أن يدعو هذه العجوز إلى أي أمرٍ من الأمور؟ فظهورها في القرية كان دائمًا نذير شؤم ومجلب مصائب، إذ بسببه قد يفقد أحدهم بقرته، أو تستحيل مياه بئره خضراء نتنة، فيحرم أهل القرية من مشربهم. والأسوأ من ذلك أن الأطفال الذين وقعت عليهم عينها الشريرة قد أصابهم التشوه، وكأن لعنتها قد حلّت بهم.


ولكن كل ذلك لم يكن ليخطر ببال هذه الساحرة، التي كانت تستدعي المطر من كهفها الشاهق لتجلب الفساد على حفلتهم، مُحيلةً الأنس إلى وحشة. فما كان ثمة سابقة لمثل هذا المطر الذي أنزلته؛ إذ استحال الوادي إلى نهر جارٍ، واندثرت جميع الزينات التي أُعِدَّت لذلك الحفل. أما الأطفال، فقد تحسروا على ما فاتهم من المرح. 


وقد كان مقدرًا لهانز وغريتشن أن يُتمِّا عقد زواجهما في هذا الحفل البهيج، بيد أن عيني غريتشن الرائعتين قد انقلبتا إلى لون الدم جراء دموعها الغزيرة، إذ إن القبعة الجديدة والتنورة المطرزة المجهزتان للحفل ستتعرضان للتلف إذا ارتديتا في هذه الأجواء. ولم تخف على العروس حقيقة أن الزواج بملابس قديمة سيظل في خلد الناس ذكرى لا تُمحى.

ولذلك كان هانز يكتنفه الحزن، إذ غابت عنه ابتسامة حبيبته غريتشن. فقال لها وهو يُقبلها قبيل النوم: “جففي عينيك، يا حبيبتي؛ فلأجلك سأقوم بالمستحيل ولو عنى ذلك استجلاب أشعة الشمس من جديد، بل حتى لو استدعى الأمر أن أصعد إلى قمة الجبل وأجلبها من بين كنف الغيوم.”

لم يكن لدى هانز أدنى تصور عن كيفية إنجاز ذلك، لكنه لم يستطع أن يترك حبيبته الجميلة تئن تحت وطأة الهموم بلا كلمة تخفف عنها الألم.

لم يمضِ وقتٌ يسير حتى سمع هانز شيئًا يصدر صوت بجانبه. فأخذ يفكر في نفسه: “ما هذا إلا كلبٌ مسكينٌ يبحث عن مأوى.” ولما أرجح فانوسه إلى مكانه، فإذ به يبصر ضفدعًا صغيرا يقبع في ركن من الحديقة في ظلام الليل.

حينئذٍ قال الضفدع: ” “إنكم في وابلٍ من المطر. يا لكم من مساكين.” فوجئ هانز بهذا الكلام حتى عجز عن الرد، غير أن الضفدع عاد ليقول بجرأة: “هل تود أن تعلم كيف تُوقفها؟” عندئذٍ، استرجع هانز عافيته بعد الفزع الذي ألمّ به من هول المفاجأة.

أجاب هانز: “لا شك في ذلك، كيف أقدر على هذا الأمر؟”

فقال الضفدع: “إن كنت تملك من الشجاعة ما يُعينك على صعود قمة الجبل الشامخ، وبلوغ العجوز الساحرة بيتو، فبإمكانك ذلك. إنها حانقة عليكم، إذ لم توجهوا إليها دعوة إلى حفلتكم البهيجة، ولذا فإنها تُرسل السيول عليكم في الوادي كعقابٍ لكم، وكم من عذابٍ ينسل من بين الغيوم!”

فقال هانز: “أخشى ألا تستجيب لي وتعرض عني.” 


فرد الضفدع: “كلا، فيمكنك أن تُلزمها بإنهاء المطر عبر العثور على القط الأخضر.”

فرد هانز: “لم أشهد في حياتي على أيّ قطة خضراء من قبل، وما سمعت عن أخبارها. فكيف لي أن أجد مثل هذه القطة الغريبة؟”

فأجابه الضفدع: “هنا تكمن صعوبة الأمر، فعليك أولاً أن تعثر على القزم الذي يكلّف بحراستها. فلا شيء تخشاه هذه الساحرة العجوز سوى تلك القطة العجيبة.

فاستفسر هانز قائلًا: “أين يقطن هذا القزم؟ ولمَ هو موكل بحراسة القطة الخضراء؟” فرد الضفدع قائلًا: “دعني أُنبئك بأمره. إنّ هذا القزم هو ابن بيتو العجوز، الذي يسكن في الغابة على الضفة الأخرى من الجبل. وفي كهفه، توجد تلك القطة الخضراء، التي تحرسها آلاف مؤلفة من الحشرات الطائرة التي تلدغ كل من يجرؤ على الاقتراب.”

تأمل هانز في دموع غريتشين، وكأنما تسقط من عينيها أنهارٌ من الحزن، فقال: “لأبذلنَّ جهدي، فإن قصرتُ فلن يضرّ ذلك سواي، وإن وفقتُ في مطلبي ستغمر السعادة جميع من في الوادي.” ثم شكر الضفدع على عونه، وانطلق نحو جانب الجبل حيث يسكن القزم، متسلحًا بعزيمة لا تعرف الكلل ولا الفتور.

حينئذٍ قال الضفدع: “أودعني في جيبك، فقد أكون لك عونًا وسندًا.”

فأخذ هانز الضفدع ووضعه في جيبه، كمن يضع جوهرة النفيسة في حُلةٍ ثمينة. وكانت المسافة إلى قمة الجبل نحو كهف القزم شاقة. ولما بلغ حافة الغابة، استقر على صخرة لينعم بقسط من الراحة، إذ توقع أن يواجه صعوبةً في الوصول إلى القطة الخضراء التي أخبره الضفدع بأنها تسكن في عمق الكهف.

كانت الأجواء رطبةً مظلمة، كأنها تكتنفها عتمةٌ كئيبة، وكان يتعين على هانز أن يحمل مصباحًا طوال الطريق، كمن يحمل قنديلًا في غياهب الليل. ولكن الضفدع قد أحس بثقل الموقف وخطورته، فنصحه بإطفاء مصباحه، مُشيرًا إلى أن سطوعه سينبِّه القزم والجراد بقدومهما.

قال الضفدع: ” ليس الكهف ببعيد، ودائمًا ما تُشعل نارٌ قريبةٌ منه في ظلام الليل. فإذا وصلت إلى الكهف، اتركني على الأرض.

سار هانز بخطواتٍ حذرة، متسلحًا بالتأني والعزيمة، وفجأة رأى اللهب يتلألأ، كألسنة نارٍ تتراقص في ظلام الليل. وكان القزم جالسًا على عتبة كهفه.

وضع هانز الضفدع بحذر على الأرض، واقترب من القزم بتؤدةٍ وتروٍ، فلم يُلقِ القزم إليه بالًا حتى بلغ عتبة مدخله.  

فجأةً، قفز القزم مُطلقًا صفيرًا غريبًا، كأنه نذير خطرٍ، وفورًا انتبه هانز لظهور سحابةٍ كثيفة، اعتقد في بادئ الأمر أنها دخانٌ يلتف حوله، لكنه أدرك في الحال أنها جيوشٌ من الحشرات تتطاير مسرعة صوبه. كانت الأعداد هائلة، تتدفق كدخانٍ متصاعد في ظلمة الليل الحالكة، مشكِّلةً مشهدًا يثير الرعب ويُفزع القلب.  

قفز الضفدع فجأة أمام القزم، فتراجع الأخير وكأنه تلقى صفعةً قاسية، ترنحت لها هيبته، وكأن عاصفةً هوجاء قد هبّت من حوله. قال الضفدع بثباتٍ لا يتزعزع، وعيناه تتقدان عزمًا: “لقد فات الأوان، الآن.” وقد كانت كلماته كالسيوف القاطعة. 

وحينئذٍ، أطلق القزم صفارته العجيبة، تلك التي استخدمها في لقائه الأول مع هانز، فدبت الحياة في الهواء، وتبددت جحافل الحشرات بسرعةٍ مذهلة، كما تتلاشى الظلمة عند بزوغ الفجر، وكأنها لم تكن إلا سرابا انقشع مع أول شعاعٍ من نور.

قال الضفدع بصوتٍ يشبه همسات الغابة: “إن القطة الخضراء قابعة في الكهف.”

دخل هانز الكهف بخطواتٍ مترددة، يختلج قلبه بين الحذر والأمل، وما هي إلا لحظات حتى عاد وقد حمل القطة تحت ذراعه، كمن استخرج كنزًا ثمينًا من أعماق الأرض. كان فروها أخضرَ كالزبرجد، ناعمًا كعشب الربيع، وعيناها تبرقان كما لو غُمِستا في دلوٍ من الطلاء اللامع، وتشعان ببريقٍ أخّاذٍ.

توسل القزم إليهما، وقد غمره الحزنُ، فقال بصوتٍ متهدج: “افعلوا ما شئتم بي، ولكن أرجوكم، لا تأخذوا هذه القطة.” ردّ الضفدع بحزمٍ لا يلين، وعيناه تضيقان بنظرةٍ صارمة: “إنك لمحظوظٌ لأنك أفلت بلا عقاب. عُد إلى كهفك في الحال، وإلا سأعيد النظر في شأنك.” وقد كان صوته يحمل نذيرًا لا يقبل المساومة.

عندما سمع القزم ذلك، لم ينتظر لحظةً، بل ركض مسرعًا نحو كهفه كمن فرّ من غضبٍ محتم. وما إن توارى عن الأنظار، حتى التفت الضفدع إلى هانز وقال بحزم: “ضع القطة في جيبك مجددًا، وانطلق مسرعًا نحو كهف العجوز بيتو في الجهة الأخرى من الجبل.”

امتثل هانز للأمر، وحمل القطة تحت ذراعه، ثم هرع إلى الجهة الأخرى من الجبل كما أشار عليه الضفدع. وعندما وصلا إلى وجهتهما، كان المطر قد توقف، وسكون الليل يُخيم على المكان، وكانت العجوز بيتو نائمة ملء جفونها.

عندئذٍ، أنزل هانز القطة على الأرض بلطف، ولما أبصرت القطة العجوز بيتو، جرت نحوها وأطلقت مواءً عجيبًا، كأنه نداء من عالمٍ بعيد. وفي لحظة، فتحت الساحرة العجوز عينيها، وإذا على ملامحها الخبيثة تنطبع تجاعيد الخوف، وكأنما قيدها حبلٌ من الرعب لا فكاك منه. قامت مذعورةً من مكانها محاوِلة الفرار، ولكن القطة الخضراء وقفت في طريقها شامخةً وكأنها سد منيع أمام كل محاولةٍ للهرب.

نطقت القطة بصوتٍ جلي، فقالت: “ها نحن نلتقي عند انبثاق شعاع الفجر، وقد آن الأوان لأعود إلى صورتي الحقيقية.” وما أن أنهت كلماتها حتى تجلت أمامهم فتاة فتية، تشع من حولها أنوار الفجر، كغيمةٍ مكللةٍ بنور الصباح، لتتبدد في لحظتها أسرار الليل الطويل.”

ثم حدقت الفتاة في الساحرة بنظرةً ملؤها العزم والحزم، وقالت بصوتٍ لا يعرف اللين: “والآن، قد حان الوقت لتعيدي لحبيبي هيكله الطبيعي.” أما الساحرة بيتو، فقد اجتاحتها قشعريرةٌ كالصقيع، وعجزت يدها المرتجفة عن الإمساك بالعصا التي كانت تتكئ عليها، وغدت تتلعثم، ناطقةً بتعاويذ مضطربة وغير مفهومة، كمن فقد السيطرة على قواه.

وفي المكان الذي كان يقف فيه الضفدع قبل لحظات، تجلّى شاب أنيق المظهر، ناصع الثوب، وتقدم بخطواتٍ واثقة نحو الفتاة، وأخذ يدها بين يديه بحنو، ثم طبع على ظهرها قبلةً رقيقة، تعبيرًا عن الحب الذي ملأ قلبه. أما هانس، فكان غارقًا في تأمل هذا المشهد الرومانسي، مأخوذًا بسحر اللحظة، فلم ينتبه إلى أن الساحرة بيتو كانت تغوص شيئًا فشيئًا في الصخور. وعندما استدار أخيرًا، لم يرَ لها أثرًا، فقد اختفت بالكامل، ولم يتبقَّ في مكانها سوى صخرة كبيرة، كأنها رمز لصمت الزمان الذي أطبق على مصيرها.

أشرقت الشمس ببطءٍ فوق قمة الجبل، وبدأت أشعتها الدافئة تغمر الوادي. فاستعد هانس وأصدقاؤه الجدد للنزول نحو الوادي. وبينما كانوا يسيرون، أخذ الشاب يحكي لهانس قصته: “إنني أميرٌ من بلادٍ بعيدة، وهذه السيدة هي الأميرة التي كنت مقدرًا أن أتزوجها. لكن في ليلة زفافنا، جذبتنا الساحرة بيتو إلى كهفها، مُدّعيةً أنها ستمنحنا تعويذة تضمن لنا السعادة الدائمة.”

واستمر الشاب في حديثه: “فلما وطأت الأميرة الكهف، حاولت الساحرة إقناعها بالزواج من ابنها القزم، الذي كان قد رآها قبل ذلك ووقع في حبها. ولما رفضت الأميرة هذا الزواج رفضًا قاطعًا، حولتها الساحرة إلى قطة خضراء، ووضعتها تحت حماية القزم، قائلةً: “لن تستعيدي هيئتك الطبيعية حتى نلتقي عند بزوغ الفجر.” وكانت بيتو واثقة من أن القزم لن يسمح للقطة بالخروج من قبضته، وزادت في طمأنة نفسها قائلة: “وإذا وقع ذلك، سأصير صخرةً لا تمسها وطأة الأحاسيس.” 

ثم أردف: “علمت بمصير الأميرة عندما ذهبت إلى كهف العجوز بيتو، لكنها علمت بقدومي وانقضت علي كعاصفة، فحوّلتني إلى ضفدع أنا الآخر، لتعيق عودتي إلى وطني وطلب المعونة. فقالت لي بتعالٍ: “إن كنت تطمح إلى استرداد عروسك، فلابد لك من عبور الجبل إلى الجهة الأخرى”، ثم ألقت بي في وادٍ سحيق.  وبطبيعة الحال، كان من المحال أن أتسلق الجبل في هيئتي تلك، ولكن حين صادفتك في طريقي، انبلجت في نفسي ثقة لا تتزعزع، كأنك النجم الذي ينير دربي نحو الفرج.”

فرد “هانس” ببلاغة: “إن مساعدتك قد جلبت السعادة لآخرين غيرك، إذ انقضى هطول الأمطار، وها قد حان وقت الاحتفال، وسأتم زفافي من غريتشين اليوم. عجزت عن إيفائك شكرًا كافيًا، فكيف أفيك حقك وقد أضأت لي دروب الظلام؟”

فقال الأمير لهانس بلسانٍ رقيق: “إنما الشكر موصول لك، إذ لولاك لما تمكنت من الوصول إلى الأميرة التي تسكن القلب وتضيء العتمة.” 

ثم انطلقت الأميرة والأمير، ممسكَيْن بأيدي بعضهما، فقال هانس: “وداعًا”، واندفع نحو كوخه حيث توجد غريتشن، وهنالك وجدها مبتسمة، ترتدي غطاء رأسها الجديد وملابسها المطرزة التي أعدت خصيصًا للزفاف.

فسألته بحماسة: “أحقًا انتشلت الشمس من كنف الغيوم؟” فضحك “هانس” ردًّا على سؤالها، وقال بحماسة: “ألم أخبرك أنني لأجلك سأجلب أشعة الشمس من أي مكان، حتى لو استدعى الأمر أن أصعد إلى قمة الجبل، وإن ابتسامتك هذه لهي الجزاء الوافر لما فعلت.


لم يُخبر هَانس حبيبته غريتشن عن العجوز بيتو أو القطة الخضراء، لكن بعد سنواتٍ من ذلك، بينما كانت أصوات الأطفال البريئة تتعالى حول عتبة منزلهم، استحضر هَانس تلك الحكايةً ليسحر بها قلوبهم ويبهج نفوسهم. فروى لهم قصة هذه القطةٍ الخضراء العجيبة التي يحرسها قزمٍ غامض يقيم في الجهة المقابلة من الجبل. فكانت المخيلات تتراقص مع كل كلمة ينطق بها، وكأنها تنسج من خيوط الخيال عوالم ساحرة تنبض بالحياة.


Downloads