العفريت الواشي

في يومٍ من الأيام، كانت هناك جنيّة صغيرة أسرها جمال ضفاف النهر، وما يُحيط به من سحر الماء وهدوء الطبيعة. وكانت ملكة الجنيات تُحذّر رعاياها من الاقتراب من المياه العميقة. ومع ذلك، كانت تلك الجنيّة الصغيرة تتسلل خلسة، كمن يخشى أن يراه رقيب، لتختلي بنفسها عند ضفاف النهر، حيث تجد في تموجات الماء على الحصى والصخور ما يُبهج خاطرها ويُحيي في نفسها سرورًا خاصًا. وإذا ما أُقيم احتفالٌ في مملكة الجنيات، وما إن يبدأ الرقص وتعمّ البهجة، حتى تفارق الجنيّة الصغيرة الجمع، وتطير برشاقة نحو ضفاف النهر، لتتأمل جريان الماء تحت ضوء القمر الفضي.

في إحدى الليالي الحالكة، حيث انقضت سحائب السواد على الأرض، كان عفريتٌ خبيثٌ يتربص بالجنيات كالصقر. وقد استقر تحت شجيرة دانية، حاسرًا عن عينيه التي يملئهما الحقد والمكر، وأخذ يتطلع إلى الجنيّة الصغيرة بترقبٍ وريبة. قال في نفسه متململًا: “ها هي تتجول وحدها، وقد فارقت أخواتها خلسة، وأنا على يقين أن الملكة لا تعلم بمكانها. سأكون لها رقيبًا، فإن زلت قدمها أو اقترفت خطيئةً، فسأسرّ للملكة بما شهدته، ولعلّي أظفر بمعطفٍ أحمر جزاءً لذلك.”

ظلَّ العفريت يتعقب الجنيّة بحذرٍ، حتى لمح ضبابًا يتصاعد من النهر، ثم ما لبث أن تحول إلى زبدٍ فضّي يلمع تحت ضوء القمر كأنه نجومٌ تتلألأ. وفجأةً، انبثق شابٌ وسيمٌ من قلب الماء، باسطًا ذراعيه نحو الجنيّة التي كانت تراقب جريان النهر.

قال العفريت في نفسه: “آه! قد أدركتُ ما أسعى إليه. إنَّ لها عاشقًا في هذا الموطن، وإنِّي لمخبر الملكة بما قد خفي، لتمنع هذه اللقاءات السرية. ولئن فعلتُ، فإنني سأظفر بمعطفي الأحمر، ولأكونَنَّ من المكرمين عندها.”

وفي تلك اللحظة، نادى الشاب الجنيّة الصغيرة، فالتفت العفريت، ناسيًا أمر السترة الحمراء في غمرة دهشته واستغرابه. فقال الشاب: “تعالي، يا حبيبتي، واتبعي طريق الصفصاف، فستجدين فيه الأمن من بلل الماء.” فحلقت الجنيّة بخفةٍ كنسيم الفجر، ووجهت نحو غصن الصفصاف المتدلي على النهر، وقفزت بخفةٍ إلى غصنٍ رقيقٍ حتى بلغت نهايته، حيث كان الشاب في انتظارها، فاحتضنها بين ذراعيه وسار بها إلى جزيرةٍ صغيرةٍ وسط النهر، كأنهما طائران يُحلقان في سماء الغرام. ورأى العفريت المشهد، لكنه عجز عن سماع حديثهما، فغلبه الفضول وعزم على أن يجري نحو القصر ليُخبر الملكة بما رآه من أمرٍ غريبٍ.

ركض العفريت على ضفاف النهر، وهو لا يفكر إلا في كيف سيكون لمعان سترته الحمراء التي يتمناها تحت ضوء القمر. فلما رأت الجنيّة الصغيرة العفريت يتجه نحو القصر، صاحت بفزعٍ ووجل: “يا ويلي! لقد رآني العفريت، وسيخبر الملكة بما قد شاهد! كيف لي أن أُواجه هذا البلاء؟ سأُنفى من مملكتي، وتفقدني أرضي وسمائي، ويفنى ما تبقى من سعادتي!”

فمدَّ الشاب، وهو سيد النهر، يده إلى بوقٍ من الأصداف البيضاء، متدليٍّ على كتفه بسلسلةٍ من المرجان، ثم نفخ فيه نفخةً قوية، فسقط العفريت على الأرض مغشيًا عليه. ثم استقام سيد النهر، ورفع البوق إلى السماء، وصاح في العفريت بصوتٍ كالرعد: “انهض، وأخبرني، أيها العفريت الأحمق، إلى أين تخال نفسك ذاهبًا، وقد نُصبت لك الفخاخ وعُقدت عليك الآصار؟”

فقال العفريت الماكر لسيد النهر: “أيها الملك الجليل، كنت قد عزمت أن أمضي إلى ملكة الجنيات وأخبرها أن إحدى جنياتها تُساق بعيدًا عن ملكوتها، ولكنني عدلت عن ذلك إذ رأيت الآن من تكون برفقته. ظننتُه نبتون ذاته، وأشفقت أن يحولها إلى حورية بحر.” وكان السيد النهر، وإن علم أن حديث العفريت لا يخلو من الدسيسة والمكر، قد ارتأى أن يداري خداعه، فقال له: “حسنًا، لقد علمتَ أنّ الجنية في أمان، فما الذي تطلبه لتكتم السر؟”

فأجاب العفريت سريعًا: “هب لي قبعة من الفضة.” فقال سيد النهر: “لك ذلك، تعال غدًا عند منتصف الليل، وإن كنت من أهل الوفاء ولم تفشِ السر، نلت مرادك ووضعت القبعة على رأسك.” فتعهد العفريت بذلك، وعاد مسرعًا إلى مخبئه بين الصخور، بينما عاد سيد النهر بالجنية إلى ظل شجرة الصفصاف، وقال لها: “يا نور عيني، عودي غدًا دون عصاك السحرية، فليس لنا أن نؤخر وقد انكشف سرنا للعفريت، وهو وإن نال القبعة الفضية لا يُؤمَن مكره.”

وعندما أقبل الليل التالي، جاء العفريت وانتظر على ضفة النهر، وما إن وصلت الجنية حتى سألها بخبث: “أين عصاكِ؟” إذ أدرك على الفور غيابها. وقبل أن تنطق، انبثق الماء من وسط النهر، وارتفع سيد النهر من بين الزبد والضباب، ونادى على الجنية أن تأتيه. وفي الوقت نفسه، مد يده إلى العفريت مقدما له القبعة الفضية.

وتقدمت الجنية نحو حبيبها، وأخذت القبعة من يده وألقتها إلى العفريت، ثم طارت نحو حبيبها واحتضنته. حينئذ قال سيد النهر لها: “أخبريه بمكان عصاك.” فاحمرّ وجهها خجلًا وقالت بصوت منخفض: “تركتها في القصر.” فرفع العفريت حاجبيه في دهشة وقال: “ماذا! ألن تعودي إلى الملكة؟  أم أن قلبكِ قد استسلم لرغبةٍ تجعلكِ شبحًا من أشباح النهر؟”

حينئذٍ قال سيد النهر: “ها أنت قد تبيّنتُ الأمر أيها الصغير، إننا على أعتاب زفافٍ مهيبٍ في قاع النهر. وداعًا، أيها العفريت المُؤذي، وداعًا أيها الواشي، آمل أن تكون تلك القبعة الفضية قد أعجبتك.” فوقف العفريت، مشدوهًا، يراقب الجنية وعشيقها وهما يغيبان رويدا رويدا عن ناظريه. ثم جرى نحو القصر ليبوح للملكة بما رأى. وقد تمتم في نفسه: “سأحصل على سترة حمراء جديدة،  فلم أعد أحدًا ألا أكتم السرَّ هذه الليلة.”

كان قد عزم على أن يُبَلِّغَ الملكة بما رأى، حتى غاب عن ذهنه أنّه يضع القبعة الفضيَّة الجديدة إلى أن بلغ الوادي، حيث ترقص الجنيات كالكواكب المتلألئة في ظلمات الدجى. حينئذٍ ألقى القبعة القديمة، ووضع القبعة الفضية على رأسه بقوةٍ حتى انطلقت منه صرخةٌ تشبه خوار البهائم في عذاباتها. 

ولما رأت الجنيات الصغيرات العِفريتَ المُؤذِي يتحرك يمينا وشمالا تحت نور القمر، نادوا الملكة قائلين: “يا ملكتنا العزيزة، انظري في أمر هذا العِفريت المُؤذِي، فإنه يُظهر من الغرابة ما ينذر بالمشكلات!” فأحست الملكة، وهي العارفة بأحوال العِفاريت، بخطرٍ يلوح في الأفق، فرفعت عصاها المباركة، وبعثت شعاعًا من النور إلى عينيه كأنه نور الحق، ثم قالت: “لئن لم تغرب عن قصرنا هذا، ليصيبنك عقاب أليم!”

صرخ العِفريت بلهجةٍ مفعمةٍ بالاستغاثة، قائلاً: “أوه، أمهليني، أمهليني، واسمعي ما لدي من خبرٍ عجيب! إنني أحمل سرًّا لا بد أن يصل إلى مسامعك، فهو يحمل في طياته من الأهمية ما لا يجب أن يخفى عليك.”

قالت الجنيات بأصواتٍ متداخلة، ملؤها التحذير: “أوه، لا تصغي إليه، يا ملكتنا! فإن البوح بالأسرار من أعظم الخطايا”. ثم جابهوا العِفريت قائلين: “ابتعد، فما نحن بسامعين قولك!” لكن العِفريت لم يبرح مكانه، إذ كانت في نفسه رغبةٌ جامحةٌ لنيل سترة حمراء جديدة، وكان يعتقد جازمًا أن الملكة ستعطيه إياها في مقابل السر الذي يحتفظ به في صدره. فقال بلهجةٍ مفعمةٍ باللجاجة: “إذا ما منحتني سترة حمراء جديدة، سأخبرك عن إحدى جنياتك ما إن علمت به تُدهشين.”

قالت إحدى الجنيات، وقد استدارت عيناها بدهشةٍ واستغراب: “ما أطرَفَ رأسه!”، حين رأت العِفريت يرفع القبعة الفضية التي لا تُناسبه، فتبعها ضحك الجميع بملء أفواههم، كأنهم في حفلٍ من البهجة والسرور. لكن العِفريت، وهو يستشعر خزيه، لبس القبعة ثانيةً ليُخفي رأسه المدبب، وعلت صيحته بالألم، إذ كانت هذه القبعة الصلبة مؤلمة بحق.

قالت الملكة بوضوحٍ وثقة: “إن أمر جنونه لا يخفى عليكن!” فرد العِفريت المُؤذِي بصوتٍ مرتفعٍ، مفعمٍ بالتحدي: “لست بمجنون، انصتي إلي، فسأكشف لك سري ومكنون صدري، وسأظهر لك ذكائي وفطنتي!” ثم أضاف، وكأنما يعقد صفقة: “ولكنني أحتاج أولاً إلى أن أعلم ما إذا كنتم ستمنحونني السترة الحمراء، فإن لم تُعطوني إياها، فلن أبوح بسرّي!”

لم يخطر ببال العِفريت لحظةً واحدة أن الملكة ستدير له ظهرها برفضٍ قاطع. فلما أمرته بالرحيل، انتابته الدهشةٌ. فقال، وهو يبتعد بخفوتٍ: “ستندمين على هذا،” لكنه عزم على إظهار سره، فكيف تُعدُّ المعرفة نفعًا إن لم تدهش بها الأرواح وتُثير العقول؟

وسرعان ما عاد مسرعًا، كالسهم الذي يُقذف في الفضاء، غير أن الجنيات وملكتهم قد سددن مسماعهن وفررن منه لكيلا يسمعن قوله. ومع ذلك، كان في جعبته سرٌّ عظيم يرغب في إعلانه، فاندفع حتى اقترب بما يكفي ليهتف: “إنها متزوجة من سيد النهر، وقد تركت عصاها في حفرة أعرف مكانها. وقد منحوني هذه القبعة الفضية كعهدٍ على ألا أبوح بشيء مما علمت!”

عندما بلغ أسماع الملكة والجنيات ذلك النداء، توقفن عن الفرار، وظن العفريت أنهن يبتغين المزيد من حديثه، فتوجه إليهن، عارضًا عليهن وعده بأن يجد لهن العصا إن أتين إلى الحفرة. وضعت الملكة إصبعها على شفتيها كتحذير للجنيات من التحدث، ثم عُدن إلى الحفرة متبعاتٍ العفريت الذي كان يقفز مسرعًا أمامهن. فقال، وهو ينحني ليلتقط العصا الذهبية: “ها هي”، كأنما قد أخرج من بين ثنايا الظلام كنزًا لم يُكتشف بعد.

صاحت الملكة، وصوتها كالرعد الذي يوقظ النيام: “توقَّف! لا تلمسها، سألتقطها بنفسي. والآن، بعدما أفصحتَ لنا عن سرك، ستنال مكافأتك التي تليق بك.” فبادر العفريت إلى القفز طربًا، وقد ضاء وجهه بآمال السترة الحمراء الجديدة، إذ كان على يقين بأن الملكة ستدنو منه بعصاها، فيسعد بما تفضَّل به القدر عليه. ثم قالت الملكة، محاطةً بجلالها: “سترتدي القبعة الفضية مدى الحياة.” لكن، وقبل أن يلوذ العفريت بالفرار، لمست الملكة قمة رأسه، وإذا بها تتجلّى الأعجوبة: فقد تحولت القبعة إلى أشواك انغرست في رأسه، فيا لعجب الحياة ولعبه بالأقدار!

قالت الملكة بينما كانت الجنيات يتبعنها إلى المنزل: “لقد رحلت أختكن عنا، وعلينا أن ننسى أمرها. فلننسها جميعًا، ولنحفظ عصاها لمن هو أحق بها منها.” 

لم تندم الجنية الصغيرة قط على زواجها من سيد النهر، إذ عاشت في سعادة دائمة. وأحيانًا، لما كانت تخرج من قاع النهر لتجلس تحت ضوء القمر الفضي، كان ينساب حديثها إلى إله النهر فتقول: “ما رأيك في أمر العفريت، أتحسبه تجرأ وأخبر الملكة بسرنا؟”.

أجاب إله النهر حينئذٍ: “لا ريب أنه قد أخبرها. لقد أسرع بأقصى ما يمكنه إلى مسكن الملكة، غير أن تلك القبعة الفضية كانت عائقًا له، فتقديري أنه تخلص منها. فما نال من جراء كونه جاسوسًا إلا خيبة أمله، إذ سقط في شرك خيانته قبل أن يدرك ما كان يسعى إليه.”

قالت الجنية الصغيرة: “ربما حدثه ضميره، وندم على ما فعله.”

كانت الجنية الصغيرة محقة في حكمها، فقد ندم العفريت حينما أدرك فداحة خطأه، لكن الوقت كان قد فات. وكان الشوك الفضي في قبعته يألمه كلما حرك رأسه. حاول العفريت أن يبوح للريح بأسفه على ما أفشاه من سر سيد البحار والجنية، ولكن حتى الريح لم تكن تود أن تصغي إلى همساته المزعجة. لذا، حُكم عليه أن يظل وحيدًا ومُهمَلًا، يتألم في صمتٍ طوال حياته، وتلك عاقبة من خان العهد.


Downloads