الحدوة الفضية

في غابر الأزمان، حيث كانت الممالك تُحكم بالحكمة والشجاعة، عاش ملكٌ حكيم أراد لابنته زوجًا يليق بجمالها وعراقة نسبها. كانت الأميرة فائقة الجمال، كأنها قُدّت من نور. فكّر الملك مليًا، ثم اهتدى إلى فكرة جعلت الممالك كلها تتحدث عنها. قرر أن يضع ابنته في برج عالٍ، يناطح السحاب على قمة جبل شاهق، صخوره ملساء كالمرايا.

أرسل الملك مناديًا في أرجاء مملكته والممالك المجاورة: “من يستطع الوصول إلى قمة البرج، فله الأميرة زوجة وشريكة حياة!” فتوافد الفرسان من كل حدب وصوب، قلوبهم تخفق بالأمل، وعيونهم تتوق لرؤية الأميرة. لكن كلما حاول أحدهم تسلق الجبل، زلقت حوافر حصانه على الصخور الملساء، وهوى إلى أسفل الجبل مخذولًا.

في مملكة نائية، عاش أمير شاب في قلعة موحشة. كان والده ملكًا عظيمًا، لكن الحروب التهمت ثروته، ولم يترك لابنه سوى قلعة متهالكة وحصان أسود كسواد الليل. كان الأمير يقضي أيامه يطعم حصانه ويحلم بحياة أفضل.

في يوم من الأيام، بينما كان يطعم حصانه، غرق في أفكاره عن الأميرة الجميلة في برجها العالي. تنهد بحسرة وقال بصوت مسموع: “آه يا صديقي العزيز، لو كان لدي ثياب تليق بأمير، لحاولت الوصول إلى الأميرة في برجها. حينها سينتهي هذا الفقر، وستنعم أنت بوفرة من الشوفان ذي اللون الذهبي.”

فجأة، وكأن الزمان توقف للحظات، نطق الحصان بصوت عميق كصوت الرعد الهادئ: “لِمَ لا تحاول يا سيدي؟”

ذُهل الأمير من سماع حصانه يتكلم، لكنه تذكر الحكايات القديمة عن الحيوانات السحرية، فأجاب بحزن: “كيف أحاول وليس لدي حتى ثياب تليق بأمير؟ وحتى لو حاولت، فقد عجز الكثيرون عن تسلق ذلك الجبل اللعين.”

قال الحصان بحكمة: “سيدي، عندما ينتصف الليل، اذهب إلى الساحرة التي تسكن الكهف في قلب الغابة، واطلب منها حدوتي.” ثم عاد الحصان لتناول عشاءه الزهيد، وكأن شيئًا لم يكن.

فكّر الأمير في كلمات حصانه الغريبة، ووجد أنه ليس لديه ما يخسره. فقرر في تلك الليلة أن يغامر ويذهب إلى الغابة بحثًا عن الساحرة. كان الوصول إلى حافة الغابة سهلًا، لكن اختراق أعماقها كان أمرًا مختلفًا تمامًا. في بداية مغامرته، التقى بثعلب، فسأله عن الطريق إلى كهف الساحرة.

قال الثعلب بنبرة تحمل تحذيرًا واضحا: “خذ بنصيحتي أيها السيد المحترم، وعُد أدراجك إلى بيتك. لن يجلب لك هذا الكهف سوى الشؤم والبلاء.” لكن الأمير، وقد امتلأ قلبه بالعزم والإصرار، لم يأبه لتحذير الثعلب وواصل رحلته. بعد قليل، قابل ذئبًا رماديًا، فسأله عن موقع الكهف.

ما إن سمع الذئب كلمة “كهف” حتّى ارتعدت فرائصه وفرّ هاربًا، وهو يصيح: “عُد من حيث أتيت أيها الغريب! ذلك الكهف لا يجلب سوى الأذى لمن يعثر عليه.” لكن كلمات الذئب لم تهز عزيمة الأمير، فأكمل طريقه بثبات. وبعد مسيرة طويلة، قابل بومة، فسألها عن الكهف الذي تقطنه الساحرة.

رفرفت البومة بجناحيها بقلق وقالت: “ارحل أيها الإنسان، إن كان في عمرك بقية فلا تضيعه في البحث عن هذا الكهف المشؤوم.” ثم طارت بعيدًا، تاركة الأمير وحيدًا مع إصراره.

بعد رحلة طويلة مليئة بالعجائب، وجد الأمير نفسه في قلب الغابة دون أن يدري. فجأة، سمع صوتًا غريبًا يشبه قعقعة حوافر الخيول، فاتبع مصدر الصوت بفضول.

وفجأة، وجد نفسه أمام الكهف الذي طالما بحث عنه. عندما نظر إلى الداخل، رأى منظرًا غريبًا جعل الدماء تتجمد في عروقه. كانت الساحرة العجوز ترقص في حالة من الجنون الغريب، تمشي على جدران الكهف وكأنها تسير على الأرض المستوية. ثمّ قفزت فجأة، ومشت على السقف ورأسها يتدلى للأسفل كخفاش عملاق.

بينما كان الأمير يحدق مذهولًا، لمح شيئًا يلمع في قدمي الساحرة. عندما دقق النظر، اكتشف أنها ترتدي حدوتين فضيتين براقتين. أدرك حينها أن ما قاله حصانه الأسود كان حقيقة تستحق الاهتمام.

الآن، كان عليه أن يحصل على هاتين الحدوتين بأي ثمن. لكنه انتبه فجأة وتساءل: “لديها اثنتان فقط، أين الحدوتان الأخريان؟”

وكأن الكون استجاب لتساؤله، فقد دخلت قطة سوداء كالليل إلى الكهف، تتراقص بخفة، وفي قدميها الخلفيتين الحدوتان الفضيتان الأخريان.

شعر الأمير بالذهول، فهو لم ير مثل هذا المشهد الغريب من قبل. أدرك أنّ سرّ هذه القدرات الخارقة يكمن في الحدوات الفضية السحرية، التي تمنح مرتديها القدرة على فعل المستحيل.

بعد فترة من الرقص المجنون، سئمت الساحرة وقطتها من لعبتهما، فخلعتا الحدوات الفضية. راقب الأمير بعينين حادتين كيف رفعتا حجرًا ضخمًا في منتصف الكهف، ورمتا بها في حفرة عميقة، ثم أعادتا الحجر إلى مكانه.

انتظر الأمير بصبر حتّى غطت الساحرة وقطتها في نوم عميق في ركن قصي من الكهف. تسلّل برشاقة ورفع الحجر بحذر شديد. رأى الحدوات تلمع في قاع الحفرة العميقة، وبينما كان يفكر في طريقة للوصول إليها، شعر بدفعة قوية من الخلف أطاحت به إلى قاع الحفرة.

كانت الساحرة العجوز قد استيقظت ودفعته بمكر إلى الحفرة. أخذت هي وقطتها ترقصان وتضحكان بشماتة، مستمتعان بنجاحهما في إيقاع الأمير في فخّهما.

وجد الأمير نفسه في ظلمة دامسة، محاطًا بجدران صخرية عالية. للحظة، ظن أنها النهاية، لكن بريق الحدوات الفضية في الظلام منحه بصيص أمل. وبينما كان يحدق في البريق، خطرت له فكرة جريئة.

فقد قرّر أن يرتدي الحدوات الأربع في يديه وقدميه، على أمل أن تمنحه القدرة على القفز خارج الحفرة. وما إن ارتداها وقفز، حتى وجد نفسه يطير كالريح إلى أعلى الحفرة كأنه ريشة في مهب الريح.

قفز خارج الكهف بخفة الغزال، والساحرة العجوز وقطتها يطاردانه بغضب عارم. لم يكن أمامه سوى الطيران بأقصى سرعة، وبفضل الحدوات السحرية، كان يطير فوق الأرض دون أن يلمسها، مخترقًا الغابة كالسهم الثاقب. 

كانت الساحرة وقطتها تقتربان منه بين الحين والآخر، راكبتين مكنسة سحرية تطير بهما فوق الأشجار. وكادت العجوز أن تمسك به مرارًا، لكن سرعته الفائقة أنقذته في اللحظات الأخيرة.

أدرك الأمير أنّه إذا وقع في قبضتهما، فسينتهي أمره إلى الأبد. وفي لحظة يأس وشجاعة، قرّر أن يستدير ويواجه مطارديه. استدار بحركة مفاجئة وركض نحوهما، محاولًا إسقاط الساحرة من على مكنستها.

وكأنما استجابت الحدوات الفضية لنية الأمير البطولية، أطلقت شعاعًا من الضوء الساطع نحو الساحرة وقطتها. وكما لو كان سحرًا قويًا، سقطا من على المكنسة التي طارت عاليًا في السماء حتى اختفت عن الأنظار. رأى الأمير حجرين يسقطان على الأرض، أحدهما أكبر من الآخر والصغير بينهما كان أسود اللون.

أدرك الأمير في تلك اللحظة أن قدره قد تغير، وأن الخطر الذي كان يتربص به قد زال تماما. فشعر بنسمةٍ عليلةٍ تداعب وجهه، وكأن الغابة نفسها تتنفس الصعداء بعد أن تخلصت من شرور الساحرة.

أمّا الحصان الأسود، رفيق الأمير الوفي، فراح يرقص طربًا عندما لمح الحدوات الفضية. وقف ساكنًا، كتمثالٍ من الرخام الأسود، بينما ثبّت الأمير الحدوات في قوائمه بمهارةٍ فائقة. وما إن انتهى، حتى قفز الجواد قفزةً عاليةً، وهزّ رأسه بفخرٍ وعزة، وكأنه يعلن استعداده لخوض غمار المغامرة القادمة.

ركب الأمير جواده، وانطلق كالريح، تاركًا وراءه ذكريات المعطف الرث والمحن التي مرّ بها. كان الهواء يصفر في أذنيه، والأشجار تمر بجانبه كأشباحٍ خضراء، حتى وصل إلى سفح الجبل الشامخ، حيث تقبع الأميرة في برجها العالي، كزهرةٍ نادرةٍ تنتظر من يقطفها.

بقوةٍ خارقة، وجد الأمير نفسه يندفع صعودًا، متجاوزًا كلّ العقبات والصعاب. كان قلبه يخفق بشدة، ليس من التعب، بل من شوقه للقاء أميرته. تجاوز الفرسان المتعثرين، وكلّ من حاول عبثًا الوصول إلى القمة، حتى وجد نفسه أمام البرج الشاهق.

رفع الأمير بصره إلى الأعلى، وأدرك أنّ رحلته لم تنتهِ بعد. كان البرج أملس كصفحة الماء، يعكس أشعة الشمس بتحدٍ صارخ. وبينما هو غارق في التفكير، لمح شيئًا أبيض يتدلى ببطء من نافذةٍ صغيرةٍ في أعلى البرج.

اقترب الخيط الأبيض، وفي نهايته عقدة ذهبية صغيرة تلمع كنجمةٍ صغيرة. فكّ الأمير العقدة وقبّلها بحنان، ثمّ رفع عينيه إلى النافذة وقبّل يده، مرسلًا تحية صامتة لأميرته المنتظرة. الآن، وقد لمس الأمير طرف الخيط الذي يربطه بمحبوبته، ازداد إصرارًا على الوصول إليها. وفي لحظة إلهام، تذكر الحدوات الفضية. وبحركةٍ سريعة، خلعها من حوافر جواده وارتداها في يديه وقدميه.

ثم وضع يديه على جدار البرج الأملس، فإذا به يتسلق بسهولة ورشاقة كأنه يمشي على الأرض المستوية. في لحظات معدودة، وجد نفسه عند النافذة التي بدت من الأسفل كثقبٍ صغير في السماء.

عندما رأت الأميرة فارسها الشجاع أمامها، ابتسمت ابتسامةً أضاءت وجهها كشروق الشمس بعد ليلةٍ مظلمة. اكتشف الأمير أنّ النافذة، التي ظنها صغيرة من الأسفل، كانت في الحقيقة بابًا واسعًا يرحب به. دخل وركع أمام الأميرة الخجولة، التي همست بصوتٍ عذب: “لطالما انتظرت هذه اللحظة، لكن كيف لي أن أغادر هذا السجن العالي؟”

أجاب الأمير بثقة وحب: “بين ذراعيّ ستجدين الأمان والحرية.” وبحركةٍ رشيقة، حملها بين ذراعيه القويتان، وخرج من البرج، هابطًا بخفةٍ ورشاقة حتّى وصل إلى الأرض.

وضع الأمير أميرته أمامه على صهوة جواده الأسود، ونزلا من الجبل وسط هتافات الجموع المحتشدة. كان الملك في مقدمة المستقبلين، وقد علا وجهه الفرح والفخر. قال للأمير وهو يحييه بحرارة: “أحسنت يا بني، لقد أثبت أنك فارسٌ مغوار لا يُشق له غبار. شجاعتك وإصرارك جعلاك تتغلب على كلّ العقبات. هلمّ إلى القصر، فوليمة الزفاف في انتظاركما.”

وهكذا، في مشهدٍ مهيب تكلّله الفرحة والسرور، ظفر الأمير بأميرته زوجةً، وسُرّ الملك بزوج ابنته الشجاع. عمّت البهجة أرجاء المملكة، وتناقل الناس قصة الحب والشجاعة هذه جيلًا بعد جيل، لتبقى خالدةً في ذاكرة الزمان.


Downloads