في بيت عتيق تعبق أركانه برائحة الذكريات، كانت تقطن والدة جدة هيلين مع جدتها، والتي سنسميها في قصتنا هذه: الجدة الكبرى. وكلما حلّت هيلين ضيفةً على جدتها، كانت تخصص ساعة ثمينة من يومها لزيارة غرفة جدتها الكبرى، تلك الغرفة التي كانت بمثابة كنز من الحكايات والأسرار.
في يوم من أيام الصيف الدافئة، بينما كانت أشعة الشمس تتسلل عبر النافذة القديمة، جلست هيلين بجوار جدتها الكبرى. وبعينين تلمعان بالفضول الطفولي البريء، سألت: “يا جدتي الكبرى، كم سنة مرت من عمرك الجميل؟”
ابتسمت الجدة الكبرى ابتسامة دافئة كأشعة شمس الصباح، وأجابت بصوت يحمل رنين الحكمة: “أنا في الثمانين من ربيع عمري يا زهرتي الصغيرة.”
ارتسمت الدهشة على وجه هيلين الصغير، وقالت بتعجب: “ربيع؟ كنت أظن أن الثمانين خريف متأخر من العمر! “
ضحكت الجدة الكبرى ضحكة خفيفة، وردت: “أوه يا عزيزتي، العمر لا يعد بالسنين التي نعدها، بل بنبضات القلب التي نشعر بها. فإذا كان القلب شاباً، فالعمر كله ربيع. “
سألت هيلين وعيناها تتسعان من الاهتمام: “وهل قلبك لا يزال شاباً يا جدتي؟”
أومأت الجدة برأسها وهي تشير بيدها المرتعشة قليلاً إلى أرجاء الغرفة: “بالتأكيد يا صغيرتي. انظري حولك، كلّ قطعة أثاث هنا، كلّ صورة على الجدران، كلّ تذكار صغير، يحمل قصة تبقي قلبي نابضاً بالشباب.”
تأملت هيلين الغرفة بنظرة متفحصة، محاولة فهم كيف يمكن لهذه الأشياء القديمة أن تمنح الشباب. لاحظت الجدة نظرات حفيدة حفيدتها وابتسمت قائلة: “لكن يا عزيزتي، هناك كنوز أخرى خفية، لا تراها العين. عندما أشعر بثقل السنين، ألجأ إليها فتعيد إليّ نضارة الشباب. هل ترغبين في رؤيتها؟”
اشتعل الفضول في عيني هيلين كشعلة صغيرة، وهزت رأسها بحماس.
بحركة بطيئة، ولكن رشيقة، فتحت الجدة الكبرى درج خزانة خشبية قديمة. وكأنها تفتح باب سحري إلى عالم آخر، أو لنقل إلى بعد زمني آخر، ظهرت صناديق ذات أشكال غريبة وجميلة. أخرجت صندوقاً صغيراً يُفتح من الوسط، تربطه أشرطة رقيقة.
“هذا صندوق المناديل،” همست الجدة وهي تفتحه برفق. أخرجت منه ياقة من الدانتيل، رقيقة كخيوط نسجها القمر. “هذه إحدى ياقات زفافي،” قالت والحنين يرتسم على وجهها المتجعد.
ثم أخرجت منديلاً من الكتان، اصفر لونه كأوراق الخريف، مزين بأزهار مطرزة دقيقة في إحدى زواياه. تبعه سلسلة ذهبية رقيقة مصنوعة من خصلات شعر متشابكة، وخاتم غريب من الشعر أيضاً، يزينه إبزيم ذهبي صغير يجعله يبدو كحزام سحري ضئيل.
وأخيراً، بيدين مرتعشتين من الانفعال، ناولت الجدة الكبرى هيلين صورة قديمة، وعيناها تلمعان بدموع الذكريات الحلوة.
“انظري إن كنتِ تستطيعين معرفة من هذه،” قالت الجدة الكبرى بصوت يرتعش من الحنين. حدقت هيلين في الصورة فرأت فتاة فائقة الجمال، بخصلات سوداء متموجة وخدود وردية. كانت عيناها سوداء كعيني هيلين، وترتدي فستانًا مزينًا بنقوش زهرية بديعة.
“كنت في الثامنة عشرة عندما التُقطت هذه الصورة،” همست الجدة الكبرى، وعيناها تسبحان في بحر الذكريات. خطر لهيلين أن جدتها الكبرى كانت تشبه دمية جميلة، وتساءلت إن كانت جدتها حقًا كانت بهذه النضارة والجمال يومًا ما. ثم راودتها فكرة غريبة: هل ستصبح هي أيضًا يومًا ما عجوزًا مثل جدتها الكبرى؟ كانت هذه أول مرة تخطر فيها مثل هذه الأفكار على بالها.
“وهذه صورة جدك الأكبر، التُقطت يوم زفافنا.” نظرت هيلين لترى شابًا وسيمًا، بعينين زرقاوين وشعر بني متموج. كان يبدو منتصب القامة، يرتدي ياقة عالية، وقد بدى لهيلين وكأنها ملفوفة بأمتار من الساتان الأسود.
ثم أخرجت الجدة مروحة بأعواد من اللؤلؤ، وعلى أحد الأعواد الخارجية كانت هناك مرآة صغيرة. أخبرتها الجدة أنها ستكون لها يومًا ما، فشعرت هيلين بإثارة غامرة.
بعدها، ظهر زوج غريب من القفازات الجلدية الوردية الباهتة، مع خطاطيف نحاسية صغيرة. “هذه كانت قفازات زفافي،” قالت الجدة الكبرى، “وهذه كانت قفازات السفر.”
ضحكت هيلين في سرها، فلم تر شيئًا مضحكًا كالزوج الثاني من القفازات، الذي كان بلون أخضر زاهٍ.
ثم كانت هناك ربطات عنق غريبة بشراشيب وزوج من الجوارب بلون القفازات الوردية. “كانت هذه جواربي يوم زفافي، وارتدتها جدتك أيضًا يوم زواجها،” أردفت الجدة الكبرى، “وآمل أن تكون لك يومًا ما.” فكرت هيلين أن هذا لأمر غريب حقا. إذ لم تكن تريد ارتداء جوارب قديمة يوم زفافها.
كانت هناك خصلات شعر مربوطة بشرائط أيضا، وصورا لأشخاص يرتدون ملابس غريبة المظهر.
“وهذا دبوس صدر أهداه لي جدك الأكبر، به خصلة من شعره.” أخذته هيلين بيدها ونظرت إليه بفضول. بدا لها غريبًا جدًا أن يرغب أحد في ارتداء دبوس كهذا.
كانت هناك أيضا ساعة بوجه ذهبي، وعلى ظهر علبتها رسم لبيت وأشجار. “ستكون هذه لك أيضًا،” أخبرتها الجدة الكبرى، لكن هيلين لم تعتقد أنها ستلبس ساعة يد كبيرة كهذه يومًا ما.
“فستان زفافي موجود في تلك الحقيبة. هل تودين رؤيته أيضا؟” سألت الجدة الكبرى هيلين والتي وافقت بحماس، فطالما تساءلت عما يوجد في الحقيبة المغطاة بالفرو.
“يا إلهي! إنه رائع!” هتفت هيلين بإعجاب، بينما رفعت الجدة الكبرى فستانًا من الحرير الوردي الفاتح مع رسومات خضراء صغيرة. كان التنورة واسعة وطويلة، وبدا الخصر وكأنه قد يناسب هيلين تمامًا.
ثم أردفت الجدة الكبرى: “لقد ارتدت جدتك أيضا هذا الفستان في عيد زواجها،” أتمنى أن ترتديه أنت أيضًا، لكنني أخشى أنه قد لا يصمد حتّى ذلك الحين.
“أمّا عن هذا الشال الذي ارتديته أيضًا، فسيكون لك، وأعتقد أنك ستتمكنين من ارتدائه.” لقد كان شالا ساحرا بلون اللؤلؤ الفاتح، محاطا بشراشيب ومطرز بزهور كبيرة. “وهذه كانت فردتا حذاء زفافي؛ ارتدتهما جدتك أيضًا عندما تزوجت، وآمل أن تتمكني من ارتدائهما.”
لكن هيلين فكرت في نفس الأمر الذي فكرت فيه بخصوص الجوارب، فهي تحبذ لو ترتدي أحذية جديدة. لذا صمتت دون أن ترد بأي شيء. ومع ذلك، شعرت بسحر غريب يلف كل هذه القطع القديمة، كأنها تحمل أسرار الزمن بين طياتها.
“هناك شيء ستحبينه حتمًا،” همست الجدة الكبرى بصوت مليء بالسر والإثارة، وهي تناول هيلين صندوقًا صغيرًا. رفعت هيلين الغطاء ببطء، وإذا بها تجد كنزًا من بطاقات عيد الحب، اصفرت مع مرور الزمن، لكنها كانت أجمل ما رأته عيناها على الإطلاق.
“يمكنك أن تسلي نفسك بالنظر إليها.” أردفت الجدة الكبرى بابتسامة حنونة. كانت هناك بطاقات مزينة بالدانتيل وأوراق ملونة جميلة، وواحدة منها كانت من الساتان المعطر، تفوح منها رائحة الماضي العبقة. لكن البطاقة التي سحرت هيلين أكثر من غيرها كانت مصنوعة من الدانتيل الرقيق، وفي وسطها مرآة صغيرة محاطة بورق أزرق، وكُتب تحتها بحروف ذهبية براقة: “يا قطعة من فؤادي. “
“أين هي القطعة من الفؤاد هذه؟” سألت هيلين بعينين متسعتين من الدهشة.
ضحكت الجدة الكبرى ضحكة رقيقة. “انظري في المرآة،” أجابتها بنظرة مشاكسة.
“أوه! هذا مضحك جدًا،” قالت هيلين وهي تضحك بسعادة طفولية. وفي إحدى زوايا البطاقة، كانت هناك صور صغيرة لملائكة الحب تحمل لافتة كُتب عليها “بأعمق الحب”؛ وفي زاوية أخرى زوج من اليمام يحمل في منقاره شريطًا كُتب عليه: “سأعيش في قلبك إلى الأبد”.
“ها هنا رزمة من الرسائل،” قالت هيلين بحماس عندما وصلت إلى قاع الصندوق، وناولتها للجدة الكبرى. كانت الرسائل تحمل طوابع بريدية غريبة الشكل ومربوطة بشريط أزرق أنيق.
“هذه الرسائل كتبها لي جدك الأكبر،” قالت الجدة الكبرى بصوت يرتجف قليلاً من التأثر، “عندما كان حبيبي، أو دعيني أقول قبل أن نتزوج، رغم أنه ظل حبيبي على مرّ الدهور والأزمان،” ووضعت الرسائل على شفتيها وقبلتها برفق. إثر ذلك واصلت هيلين النظر إلى بطاقات عيد الحب، مأخوذة بسحرها وجمالها القديم.
عندما انتهت من استكشاف كنوز الصندوق، لاحظت أنّ جدتها الكبرى قد غفت. كانت الرسائل في حضنها وفي إحدى يديها صورة حبيبها. نظرت هيلين إليها بتأمل عميق.
كانت هناك ابتسامة هادئة مرتسمة على وجه الجدة الكبرى، وكأنها تحلم بذكريات جميلة من ماضيها البعيد. وفجأة، فهمت هيلين ما كانت تعنيه جدتها بالحفاظ على ربيع العمر. لم يكن الأمر متعلقًا بعدد السنين التي يعيشها المرء، بل بالقلب الذي يحتفظ بحب الحياة والذكريات الجميلة.
بعد تلك الزيارة، أصبحت هيلين تنظر إلى جدتها الكبرى بعين مختلفة. لم تعد تراها مجرد سيدة عجوز، بل روحًا شابة محبة للحياة، تحمل في قلبها كنوزًا من الحب والذكريات. وأدركت أنّ العمر الحقيقي لا يُقاس بالسنين، بل بمدى احتفاظنا بشغف الحياة وجمال الذكريات في قلوبنا.