الأميرة ديدو وأمير الورود

كانت الأميرة الصغيرة ديدو تفر من كنف خدمها كلما سنحت لها الفرصة حتى تعانق الحرية ولو لفترة صغيرة من الزمن. وفي يوم من الأيام، بينما كانت تتجول في أحضان الغابة مع مرافقيها، اختبأت خلف شجرة عتيقة، تسترق السمع إلى حديثهم. وما إن افتقدوها، حتى انطلقت في درب آخر، فغابت عن أعينهم، كأنها نجمة تلاشت في السماء.

ولما وجدت الأميرة ديدو نفسها في غمار الوحدة، راحت تبحث في محيطها عما يروق لها من الزهور، إذ كانت تعشق الأزهار عشقًا عميقًا، وتُحِبّ عبيرها وجمالها. ولم يكن يسمح للأميرة بقطفها بنفسها، بل كان خدمها يقومون بذلك نيابة عنها.

قالت ضاحكة في نفسها: “يمكنني قطفها بنفسي الآن!”، إذ تملّكها الفرح بفرارها من رقابة الخدم. وبدأت تجمع الأزهار البرية، وتتنقل بين الأشجار وكأنها فراشة تُحلّق في فضاءات الغابة، متوغلة في أعماقها، تنسج من الألوان ما يحلو لها من زهور، كأنها ترسم لوحةً من أريج الحياة. 

ومع غروب الشمس، وجدت نفسها محاطة بكثافة الأشجار والشجيرات، وبدأت تتساءل في حيرة: لماذا لم يجدها خدمها ليعيدوها إلى قصرها؟ ولكن الشمس قد غابت، وظهرت النجوم تتلألأ في عنان السماء، ولم يأت أحد إليها، فأحست بالتعب، وتوسدت الأوراق والطحالب، وخلدت إلى النوم كعصفور في عشه الدافئ.

استيقظت بعد حين بعد أن لسعها بلطف نسيم الليل البارد، ففوجئت بالقمر يتلألأ فوقها، ورغم وحدتها في الغابة، لم تساورها مخاوف، إذ لم يخطر ببالها أن يمسها سوء، فتقلبت في مضجعها، عازمة على الاستسلام للنوم مرة أخرى، حتى شعرت بشيء بارد يلمس خدها.

ففتحت عينيها على وسعهما وجلست مكانها، فجذب انتباهها شجيرة قربها مفتاح صغير مصنوع من الذهب، يتدلى بخيط يتأرجح برفق، ويكاد هذا المفتاح يلامس وجهها.

قالت الأميرة في نفسها: “أتساءل أي قفل يناسب هذا المفتاح البديع؟ ليتني أعلم! فأنا على يقين أنني سأجد شيئًا رائعًا خلف أبواب الغموض هذه. سأبحث في كل الاتجاهات، وليس لي نية في النوم بعد، إذ إن القمر يتلألأ في السماء كما لو كان نهارًا مشرقًا، يرافقني في مغامرتي، ويضيء لي دربي بين الأشجار.”

فبدأت تبحث في كل مكان بين الشجيرات والصخور، بيد أنها لم تجد شيئًا يُشبع فضولها. وحينما كادت تسلم نفسها للنوم مرة أخرى، لمحت بريقًا يتلألأ على غصن شجرة، فإذا بها تكتشف ثقب مفتاح صغير يتناسب تمامًا مع المفتاح الذهبي الذي تملكه. كأنما هذا الثقب كان ينتظرها، يدعوها لاستكشاف ما وراءه، ويدلها على سرٍّ قديم حبيس في قلب الغابة.

فجأة، أدخلت الأميرة المفتاح في القفل، فانفتحت الشجرة وكأنها تفتح ذراعيها لاستقبالها. انزاحت الغصون بلطف، فخطت الأميرة ديدو إلى داخلها، مغلقةً خلفها هذا الباب السحري الذي أتى بها إلى عالم آخر. سارت على درب ملتوي، كما لو أنه يتمايل بين أغصان الشجرة، وإذا بها تكتشف أنها ليست في الغابة بعد الآن، بل في مملكة زاهية بالألوان والعجائب. هناك، كانت الأشجار تتعانق برفق، وأمامها تظهر في الأفق قلعة فاخرة تتلألأ كنجمة في سماء صافية.

فلما بلغت الأميرة ديدو القلعة، أذهلها منظر النوافير التي ترقص كالأحلام حولها، والزهور التي تتناثر بألوان شتى كأنها عناقيد من الفرح. وفي أحضان الأشجار، كانت الطيور تُغنّي ألحانًا بديعة، تملأ الفضاء سحرًا ونغمًا. فقالت في نفسها: “لعلني أذهب إلى باب القلعة لأُعلِمهم من أكون، فهكذا تصنع الأميرات في كل مكان، ولكن ليتني أستطيع البقاء في هذه الحديقة الساحرة، أستمع لتغريد الطيور وأتأمل أزهارها.”

طرقت الأميرة الباب، فلم يُجِب أحد، وبعد لحظة من الانتظار، فتحته ودخلت، لتجد كل شيء ساكنًا كأنما الزمن قد توقف. جلست في صمتٍ، تتأمل المكان بترقب. واعترتها بعض الأفكار فحدثت نفسها قائلة: “لعلهم مشغولون بتناول الفطور. أتمنى لو كان لدي شيءٌ لأتناوله، فقد حرمت من العشاء ولم أستمتع بفطور الصباح.” وما إن همست بذلك، حتى ظهرت أمامها طاولة محملة بفطور شهي، بجانبها باقة من الورود الوردية الزاهية، كأنها تُرحب بها في هذا العالم العجيب.

تساءلت في ذاتها: “من أين أتى هذا؟ لم أسمع أو أرى أحدًا!” لكن الجوع كان يعتصر قلبها، فقررت تجاهل الأمر. وحين انتهت من تناول فطورها الشهي، انطلقت تستكشف القاعة، إذ اعتادت الأميرات على التنقل حيثما يحلو لهن، ومع غياب الأعين، استمرت على نفس المنوال.

لكن لم تكن هناك غرفة تنفتح من القاعة التي كانت فيها، فتوجهت إلى السلالم، لتجد نفسها في قاعة كبيرة زاهرة، تفوق في جمالها قصرها الخاص. كانت الأرض من الرخام الفاخر، والجدران تعكس بريقها كأنها أحجار من السماء. وكم كانت الألوان رائعة، تتراقص مع أشعة الشمس التي تتسلل من النوافذ، محاطة بورد أبيض يتنشر عطره في الأرجاء، كأنه يحمل همسات الربيع في كل زاوية.”

كانت هناك مجموعة أخرى من السلالم، فتوجهت الأميرة نحوها، وإذا بالسلالم من الفضة اللامعة، تتلألأ تحت خطواتها كأنها تتراقص مع كل حركة. وفي الطابق التالي، وجدت الأميرة نفسها في قاعة من الكريستال، حيث تتعانق فيها الورود الوردية؛ ورود تنبض بالحياة والجمال لم يسبق لها أن رأت مثلها.

فقالت: “يا ليتني أستطيع قطفها!” وبينما كانت تنتقل من شجيرة إلى أخرى، فوجئت برؤية الورود تُومئ كأنها تبيح لها القطف إن أرادت. وكأنها أرواح حية، تدعوها للاقتراب، تتراقص برقة مع نسيم الحديقة، فتمنحها سحرًا لا يُقاوم، وتبث فيها رغبةً جامحة في اكتشاف المزيد من أسرار هذا المكان الساحر.

اقتطعت الأميرة ديدو وردة من غصن أمامها، ثم قطعت أخرى، وفيما كانت الورود تستمر في التمايل برقة، جمعت المزيد حتى أضحت ذراعاها محملة بالزهور، كأنها تتوج نفسها بتاج من الجمال. لكن كانت هناك مجموعة أخرى من السلالم، بيد أنها كانت مصنوعة من الذهبٍ المتلألئ. فتوجهت الأميرة صاعدةً، وإذا بها تجد نفسها في حجرة أخرى، زرقاء كالياقوت ومحاطة بالورود من كل مكان.

لكن تلك الغرفة لم تكن نهاية المطاف، إذ لم تتأخر الأميرة طويلاً مع ذراعيها المثقلتين بالورود الوردية. صعدت إلى آخر مجموعة من السلالم، فوجدت نفسها في قاعة عامرة بالورود الحمراء والوردية والبيضاء، تتعانق بألوانها في تناغم مدهش. كانت الجدران مكسوة بحرير رمادي ناعم، والأرضية مفروشة بمخمل من نفس اللون، كأنها تحتضن خطواتها برفق. أضفى هذا المكان على الأميرة شعورًا بالغموض والسحر، وكأنها دخلت إلى عالمٍ لا ينتهي من الجمال.

قالت: “يا لبهاء هذا المكان! ليتني أستطيع العيش هنا بين الورود!”

فأجابها صوت كنسيم رقيق، قائلاً: “يمكنك ذلك يا أميرة الورود.” ومن خلف الستارة، ظهر أمير وسيم، يرتدي بدلة من المخمل الرمادي، مزينة بحواف فضية ووردية. نزع الأمير قبعة مزدانة بريشة وردية طويلة، وانحنى انحناءة مهيبة أمام الأميرة ديدو، التي أسقطت أزهارها ووقفت تتورد خجلًا كأزهارها التي سقطت.

أوضح الأمير بصوت عذب: “هذه قلعتي، قلعة الورود. وقد أقسمت ألا أتزوج حتى أجد أميرة تحب ورودي كما تحبني. وقد أثبتِّ ذلك بدخولك حديقة ورودي. لقد جاء آخرون، ولكنهم، لما وجدوا الورود في كل غرفة، لم يجرؤوا على الصعود إلى هذا الطابق.”

دار الحديث بينهما، وكانت نسمات الهواء تتلاعب بمشاعرهما التي ترفرف كالفراش، لتنشر عبق الحب وعبير الأمل.

تابع الأمير قوله: “خلف هذه الستائر تمتد قلعتي، وهذه القاعات الزاخرة بالورود ليست سوى شذى من حجرتي الخاصة. ثم سأل وكأنما ينشد قلبها: “فهل ستبقين، أيتها الأميرة، أم أستدعي الجنيات ليردنك إلى قصرك؟”

أجابت الأميرة ديدو، وقد انتشر ضوء السعادة في عينيها كأشعة الشمس في صباحٍ جديد.: “استدعِ الجنيات ليبلغن شعبي أنني سأعيش في قلعة الورود مع أمير الورود.”

 تساءلت الأميرة، مُعبرةً عن فضولها، كأنما تسعى لتفكيك غموض هذا العالم الساحر الذي أتاح لها سحرًا لا حدود له: “ولكن من الذي علق المفتاح الذهبي الصغير على الشجيرة؟”

قال الأمير: “أوه! لقد استشرت الجنيات في أمري، وطلبت منهن مساعدتي في العثور على زوجة، وهن من علقن المفتاح هناك. وها نحن ذا، سَنعيش في قلعة مسحورة، فضلاً عن قلعة الورود، حيث لا حد لسعادتنا. فكل زاوية في هذا المكان تنبض بحكاية عشق، وكل وردة تتفتح تُزهر وعودًا بأيام مزهرة.”


Downloads