أعينٌ ترقب حركات السيد راكون

في غابة غامضة تكتنفها أسرار الطبيعة وعجائبها، كانت جميع الكائنات تعيش في تناغمٍ رائع، متبعةً عاداتها وأطباعها، كلٌ على شاكلته. ومن بين تلك المخلوقات، برز راكون غريب الأطوار، يمتاز بعادة فريدة أثارت فضول أقرانه من باقي الحيوانات. وفي ذات يوم، خطَر لثعلب ماكر أن يكتشف سر هذا الراكون، غير مدركٍ أنه سيقود رفاقه إلى مفاجأةٍ تتجاوز مخيلاتهم وتفوق توقعاتهم.

حينما حلَّ الراكون في أحضان الغابة ليبدأ حياته الجديدة، لم يسبق لأحدٍ من سكانها أن التقى بأحد أفراد عائلته من قبل، فعادة ما يقطن الراكون قريبا من بني البشر، مما جعل الحيوانات تجهل عادته الغريبة، التي تتمثل في غسل جميع أنواع اللحوم قبل أن يستهل تناولها. وكأنما كانت تلك العادة طقسًا مقدسًا. 

وذات يوم، بينما كان الثعلب ريدي يخطو عبر دروب الغابة المتعرجة، وقع نظره على الراكون وهو يحمل سلةً في يده، متوجهًا بها نحو النهر عبر الأدغال الكثيفة. لم يكن الراكون يدري بوجود ريدي، الذي كان مولعًا باستراق السمع، فاختبأ خلف الشجيرات الكثيفة، متشوقًا لمعرفة ما سيفعله هذا الكائن العجيب الذي أسرَ فضوله.

وما أن رآه ريدي يأخذ قطعًا من اللحم بكفيه الأماميين وينقعها في الماء قبل أن يتناولها، حتى انتابته دهشةٌ كبيرة، وقال في نفسه: “إن هذا لأغرب ما رأته عيني، يجب أن أُخبر جميع قاطني الغابة بهذا، لنجتمع جميعًا ونشهد هذا المنظر العجيب!” وكأنما أشعلت تلك الحادثة في قلبه شعلةً من الفضول، دفعته نحو مغامرةٍ غير متوقعة.

وقبل أن يحقق ريدي رغبته، تأكد من أن الراكون يتردد على النهر يوميًا لأداء تلك العادة الغريبة، لكنه لم يكن يفهم بالضبط ما الذي يفعله هذا الراكون الفريد وما دافعه لذلك ابتداء. ولأنه كان يشك في أن هذا الأمر كان من عادات السيد الراكون، لم يتمكن من فهم السبب الذي يمنعه من التهام اللحم بمجرد حصوله عليه كما يفعل باقي سكان الغابة من آكلي اللحوم.

كان الراكون يتمتع بنظراتٍ حادة، وفي يوم من الأيام، بينما كان ريدي يراقبه باهتمام، انتابه الفضول فأخرج رأسه من مخبأه. وما إن لمح الراكون وجوده، حتى تمتم في نفسه: “إنه يراقبني، أليس كذلك؟ سأعتني به غدًا.” 

وهكذا، قرر ريدي أن يكون الغد هو اليوم الذي سيجمع فيه جميع سكان الغابة ليشهدوا تلك العادة الغريبة التي يمارسها الراكون.

في اليوم التالي، استجاب السنجاب والأبسوم والأرنب، بل وحتى الغُرَير، الذي أقنعه ريدي بترك عادته في البقاء داخل جحره خلال النهار. وتحت ضوء الشمس المتلألئ، سار الجميع خلف الثعلب ريدي صوب النهر، واختبأوا خلف الشجيرات القريبة، كأنهم جنودٌ في معركةٍ لم تُعلن. تملكتهم مشاعر الشوق والترقب، كل منهم يترقب اللحظة التي ستفصح عن أسرار هذا الكائن الغامض.

فقال الغُرَير بلطف: “لا أشعر بالراحة حقًا، ثمة أمر ما لا يسير على ما يرام.” ثم استلقى على الأرض حتى أصبح كالسجادة التصاقا بالأرض.

في تلك الأثناء، كان الراكون يراقب من قمة شجرة، وقد أطل على جميع سكان الغابة وهم يتبعون ريدي نحو النهر. وتمتم قائلا: “يبدو أنهم اجتمعوا ليضحكوا عليَّ عندما أغسل طعامي؟ حسنًا، دعونا نرى من سيضحك أخيرا، يا أصدقائي وجيراني! ولكن أعتقد أنّ الثعلب ريدي لن يكون من بين الضاحكين؛ فأنا على ثقة أنكم جميعًا ستتفاجؤون بما سيحدث!”

وكان الراكون يضحك بينه وبين نفسه حتى كاد أن يسقط من أعلى الشجرة، وهو يتخيل ما سيؤول إليه الأمر. فقد كان يدرك تمام الإدراك أن قاع النهر موحل، وأنّ الماء ضحل، لكنه كافٍ لغسل طعامه دون أن يثير الطين. وكان يخطط لتحقيق ما يراود نفسه، مُضفيًا لمسة من الدهشة على جميع المراقبين الذين يتابعون أحداث تلك اللحظة بشغف.

عاد الراكون إلى عشه ليحضر سلته، في الوقت الذي كانت فيه الحيوانات متراصة خلف الأشجار، تتربص بلهفة، وآذانها مصغية لما وعدهم به الثعلب. وفجأة، سمعوا خطوات الراكون تقترب، ولما نظروا من بين الأغصان، أبصروا الراكون يجر سلته على الأرض، بدلاً من أن يحملها في ذراعه كما هو معتاد.

همس الثعلب ريدي إلى رفاقه حينما وقع نظره على الراكون وهو يسحب سلتَه: “إن سلتَه تبدو ممتلئة هذا الصباح، لا بد أنّ المشاهدة ستكون ممتعةً بلا ريب.”

وحينما بلغ الراكون ضفاف النهر، جلس على الأرض وخلع غطاء سلتَه، بينما كانت الحيوانات تمد أعناقها في شغفٍ لترى ما يُخبّئه القدر. حتى الغرير لم يُثنِه الكسل عن النهوض، فتأمل باهتمام، متمسكا بالشجيرات بمخاله ليزيد من طوله.

وعلى نفس المنوال، ركض السنجاب نحو أطول الشجيرات التي تطل على الحدث، حتى يتسنى له استكشاف كلّ ما يجري. وقفز الأرنب إلى حافة الشجيرات، متجهًا نحو إحدى الأحجار القريبة حتى يعتليها للمراقبة عن كثب. أمّا الأبسوم، فقد وجد شجرة قريبة، فتعلق بذيله من فرعٍ منخفض، حتّى يتمكن من رؤية كلّ التفاصيل دون إفلات أيّ شيء منها، منتظرًا ما سيطرأ إثر ذلك. وكان الثعلب حينئذٍ في مقدمة المشهد، حيث لم يتوانَ في التقدم ليشهد كلّ ما يُثير اهتمامه.

لقد كان الرّاكون عالمًا أنهم جميعًا هنالك، ولم يكن ليعجل في شيء من أمره. فلما أزاح الغطاء عن السلة، أدخل يده ببطء، متأملًا النهر لبرهة. ثم، بعدما اطمأن إلى أنهم جميعًا يمدون أعناقهم بشغف لمشاهدته، ألقى بالسلة في النهر.

غير أن الراكون، لم يضع اللحم في السلة هذه المرة، بل وضع أحجارا ضخمة، انغمست باندفاعٍ شديد لثقلها في النهر الضحل، مما أدى إلى تناثر الطين في كل مكان، ليغمر المراقبين في الجهة الأخرى من النهر من رؤوسهم إلى أخمص مخالبهم. 

ثم بدون أيّ انفعال أو إظهار لأي مشاعر التقط الغطاء وأعاده إلى السلة وكأنه لم يلاحظ أي شيء، ثم ابتعد عن المشهد رويدا رويدا. لقد ظهر وكأنه بصدد التخلص من أحجار ضخمة علها كانت تعترض طريقه أو ما شابه. في أثناء رجوعه إلى منزله كان يمكنه بوضوح سماع سكان الغابة يتخبطون، ويحاولون مسح الطين عن فرائهم، ولكنه تجاهل ذلك وكأنه لم يسمع شيئا إطلاقا. كان من العسير عليه كبح ضحكاته حتى ابتعد عن مجال السمع والرؤية، حينها انفجر ضاحكا وتمرغ في الأرض ماسكا بطنه وهو يتدحرج يمينا وشمالا. ثم توقف فجأة، وجلس منتبهًا، إذ سمع صوت شخص يقترب من بين أشجار الغابة.

قفز الراكون هاربًا إلى مكان للاختباء، وبعد قليل، أبصر جميع الحيوانات تتقدم ببطء، مبللة، وعابسة، تلوم الثعلب على الحيلة التي كانوا متأكدين أنه هو من قد دبّرها لهم.

وأخذ الثعلب ريدي يبرر موقفه: ” تريثوا، تريثوا يا أصدقاء. أقسم بالله العظيم أنّه لم يقم بهذا الصنيع من قبل بتات. هلّا صدقتموني رجاء؟” لكن لم يصدقه أحد ووصفوه بالمكر وباقي النعوت ولم يعودوا يثقون في كلامه.

تذمّر الأبسوم بأنّ فروه قد تضرر بسبب الطين، وقد أصبح الآن متسخا بالطين الرمادي، بينما أظهر الغرير وجهه الأبيض المتسخ، إذ تناثر الماء عليه حين وقف على ساقيه الخلفيتين ليتفرج. وقال بحسرة: “لن أستطيع السير على قدمي مجددًا، فإن هذا الطين عالقٌ بي، ولا يسعني أبدًا أن أسمح لأحد أن يرى هذا المعطف المتسخ.”

ولم يُفصح السيد أرنب عن كلمة واحدة، لكن السنجاب انطلق منفعلاً، مزمجرًا متذمرًا، ليُخبر كل من يعرفهم عن الحيلة القذرة التي دبرها ريدي ضد أصدقائه، ونسوا جميعًا ما قد سمعوه من حديثٍ حول العادة الغريبة التي عُرف بها السيد الراكون، والتي تتعلق بغسل طعامه، إذ غلبت عليهم مشاعر الغضب تجاه الثعلب.

وحينئذٍ، فكر السيد راكون بأنه لا يمانع من قضاء يوم كامل دون تناول اللحم حتى تستقر مياه النهر التي تلوثت بالطين. الآن وقد أدرك مبتغاه وأفلح في قلب الموازين على الثعلب ريدي، ليكون هو الضاحك في نهاية المطاف، فلا مانع من أكل وجبة أخرى غير اللحوم هذه الليلة. وهكذا انقلب السحر على الساحر ومن حفر جبا لأخيه وقع فيه.


Downloads